اختلاف الرؤى والأحلام
روي أن رجلًا أتى معبرا فقال: رأيت كأنني آكل تينا. فقال: تأكل بعدد كل تينة عصا. فكان كذلك. ثم رأى بعد مدة كذلك فأتى إليه وقص ذلك عليه ثانيا، فقال له: يطلع فيك بعدد كل تينة دمل. فكان كذلك. ثم مضى فرأى بعد مدة كذلك ثالثا، فلما وصل إلى باب منزله وجد كيسا فيه مبلغ فأخذه ثم قص عليه ما رآه مما تقدم، فقال له: تجد بعدد كل تينة أكلتها دينارا. فقال: وجدت ذلك. وكان ذلك الكيس وقع من المعبر فلم يبد بشيء من ذلك. فقال له الرائي: سبحان الله، تأويل الرؤيا بيدك ومهما قلته ظهر. قال: أما أكلك التين أول مرة فكانت الشجرة عارية عن ورقها وهي عصا، فأولتها بذلك، وفي المرة الثانية أكلته عند نبته في فروعه، وكان يشبه الدماميل، وفي المرة الثالثة أكلته عند استوائه وخيره، فكان كالدنانير، والكيس الذي وجدته كانت صفته كذا وكذا، وهو لي، وقد وهبته لك.
أنعم الناس عيشا
قال زياد بن أبيه لجلسائه: من أنعمُ الناس عيشًا؟ قالوا: أمير المؤمنين، قال: هيهات! فأين ما يلقى من الرعية؟ قالوا: فأنت أيها الأمير، قال: فأين ما يَرِدُ عليّ من الثغور والخراج؟ بل أنعم الناس عيشًا شاب له سِدادٌ من عيشٍ، وحظّ من دِين، وامرأة حسناء رضيها ورضيته، لا يعرفنا ولا نعرفه.
أتعرف من تحارب؟
قال يحيى الغساني لما نزل مسلم بن عقبة المدينة: زرت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست إلى جنب عبد الملك، فقال لي عبد الملك أمن هذا الجيش أنت؟ قلت: نعم. قال ثكلتك أمك، أتدري إلى من تسير، إلى أول مولود ولد في الإسلام وإلى ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإلى ابن ذات النطاقين وإلى من حنكه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أما والله إن جئته نهارا وجدته صائما، ولئن جئته ليلا لتجدنه قائما، فلو أن أهل الأرض أطبقوا على قتله لأكبهم الله جميعا في النار، فلما صارت الخلافة إلى عبد الملك وجّهنا مع الحجاج حتى قتلناه.
أحييتني أحياك الله
حضر القاضي عمر بن حبيب مجلس الرشيد، فجَرت مسألة فتنازعها الخصوم، وعلت الأصوات فيها، فاحتج بعضهم بحديث يرويه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فدفع بعضٌ الحديث، وزادت المدافعة والخصام، حتى قال قائلون منهم: أبو هريرة متهم فيما يرويه، وصرحوا بتكذيبه.
ورأيت الرشيد قد نحا نحوهم، ونصر قولهم، فقلت أنا: الحديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر إلي الرشيد نظر مغضب، وانصرفت إلى منزلي، فلم ألبث أن جاءني غلام الرشيد، فقال: أجب أمير المؤمنين إجابة مقتول، وتحنط وتكفن. فقلت: اللهم إن كنت تعلم أني دفعت عن صاحب نبيك، وأجللت نبيك أن يُطعن على أصحابه فسلمني منه. وأُدخلت على الرشيد، وهو جالس على كرسي حاسرًا ذراعيه، بيده السيف، وبين يديه النطع، فلما بصر بي قال: يا عمر بن حبيب، ما تلقاني أحد من الدفع والرد بمثل ما تلقيتني به وتجرأت علي، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الذي قلته ودافعت عنه، وملت إليه، وجادلت عنه، ازدراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى ما جاء به، فإنه إذا كان أصحابه ورواة حديثه كذابين، فالشريعة باطلة، والفرائض والأحكام في الصلاة والصيام والنكاح والطلاق والحدود مردودة غير مقبولة.
فالله الله يا أمير المؤمنين أن تظن ذلك، أو تصغي إليه، وأنت أولى أن تغار لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس كلهم، فلما سمع كلامي رجع إلى نفسه ثم قال: أحييتني يا عمر بن حبيب أحياك الله، أحييتني أحياك الله، أحييتني أحياك الله".
لما حجبت القلوب
وَقَفَ رَجُلٌ مرَّةً عَلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ، فَقَالَ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ، لِمَ حُجِبَتِ الْقُلُوبُ عَنِ اللَّهِ عزَّ وَجَلَّ؟ قَالَ: "لِأَنَّهَا أَحَبَّتْ مَا أَبْغَضَ اللَّهُ، أَحَبَّتِ الدَّنْيَا وَمَالَتْ إِلَى دَارِ الْغُرُورِ، وَاللَّهْوِ، وَاللَّعِبِ، فَتَرَكَتِ الْعَمَلَ لِدَارٍ فِيهَا حَيَاةُ الْأَبَدِ، فِي نَعِيمٍ لَا يَزُولُ وَلَا يَنْفد، خَالِدٍ مُخَلَّدٍ، فِي ملْكٍ سَرْمَدٍ لَا نِهَايةَ له وَلَا انْقِطَاعَ".
اجعل الهم همًا واحدًا
قال ابن القيم رحمه الله في كتابه المشهور "الفوائد": إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده تحمّل الله عنه سبحانه حوائجه كلها، وحمل عنه كلّ ما أهمّه، وفرّغ قلبه لمحبته، ولسانه لذكره، وجوارحه لطاعته، وإن أصبح وأمسى والدنيا همه حمّله الله همومها وغمومها وأنكادها ووكَلَه إلى نفسه، فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق، ولسانه عن ذكره بذكرهم، وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم، فهو يكدح كدح الوحوش في خدمة غيره.. فكلّ من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته بُلِيَ بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته.
أين خلفت الأدب
حدث أبو إسحاق إسماعيل بن موسى بن بنت السدي الكوفي الفزاري قال: كنت في مجلس مالك أكتب عنه فسُئل عن فريضةٍ -أي ميراث- فيها اختلافٌ بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فأجاب فيها بجواب زيد بن ثابت، فقلت: فما قال فيها عليّ بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود؟ فأومأ إلى الحَجَبة، فلما همّوا بي حاصرتهم وحاصروني، فأعجزتهم وبقيت محبرتي وكتبي بين يدي مالك.
فلما أراد أن ينصرف قال له الحجبة: ما نعمل بكتب الرجل ومحبرته؟ قال: اطلبوه ولا تهيجوه بسوء حتى تأتوني به، فجاءوا إلي ورفِقوا بي حتى جئت معهم، فقال لي: من أين أنت؟ فقلت: من أهل الكوفة، فقال لي: إن أهل الكوفة قومٌ معهم معرفة بأقدار العلماء، فأين خَلَفتَ الأدب؟ قال: قلت: إنما ذاكرتك لأستفيد، فقال: إن عليًا وعبد الله لا يُنكر فضلهما، وأهلُ بلدنا على قول زيد، وإذا كنت بين ظَهراني قوم فلا تبدأهم بما لا يعرفون، فيبدأك منهم ما تكره.
حضر ليدعو على الميت
جاء في كتاب "الطبقات السنية في تراجم الحنفية": حدث بعض الثقات، أنه لما مات بشر المريسي لم يشهد جنازته من أهل العلم والسنة أحد إلا عبيد الشونيري، فلما رجع من جنازته أقبل عليه أهل السنة والجماعة، وقالوا: يا عدو الله تنتحل السنة، وتشهد جنازة المريسي؟ قال: أنظروني حتى أخبركم، ما شهدت جنازة رجوت بها من الخير ما رجوت في شهود جنازته، لما وضع في موضع الجنائز، قمت في الصف، فقلت: اللهم عبدك هذا كان لا يؤمن برؤيتك في الآخرة، اللهم فاحجبه عن النظر إلى وجهك الكريم يوم ينظر إليك المؤمنون، اللهم عبدك هذا كان ينكر الميزان، اللهم فخفف ميزانه يوم القيامة، اللهم عبدك هذا كان لا يؤمن بعذاب القبر، اللهم، فعذبه اليوم في قبره عذابًا لم تعذبه أحدا من العالمين، اللهم عبدك هذا كان ينكر الشفاعة، اللهم فلا تشفع فيه أحدًا من خلقك يوم القيامة. فسكتوا عنه، وضحكوا.
هند بنت أسماء بن خارجة
كانت هند بنت أسماء بن خارجة الفزارية؛ من جميلات العرب في زمانها، لم يكن في زمانها امرأة شبيهتها جمالا وكمالا وعقلا وأدبا، فتزوجت عبيد الله بن زياد بن أبيه، وكانا لا يفترقان في سفر ولا حضر، فقتل سنة 67هـ قرب الموصل، وهي معه، فقالت: لا يستمكن هؤلاء مني، ثم شدت عليها قباءه وعمامته ومنطقته، وركبت فرسه الكامل، ثم خرجت حتى دخلت الكوفة في بقية يومها وليلتها ليس معها دليل أو أنيس، ثم كانت بعد من أشد خلق الله حزنًا عليه وتذكرًا له، وكانت تقول: إني لأشتاق إلى القيامة لأرى فيها عبيد الله بن زياد.
وكان الحجاج بن يوسف يحب أن يتزوج من بيوتات العرب، وكان الناس يتقربون إلى الحجاج بذلك، فدله محمد بن عمير الدارمِي على هند بنت أسماء بن خارجة الفزارية ووصفها له وقال: تزوجها أيها الأمير فإنها في بيت قيس، فأرسل الحجاج أيوب بن القِرِّية –وكان من فصحاء العرب– وقال له: اخطب عليّ هند بنت أسماء، ولا تزد على ثلاث كلمات، فأتاهم فقال: أتيتكم من عند من تعلمون، والأمير معطيكم ما تسألون، أفتنكحون أم تردّون؟ قالوا: بل أنكحنا وأنعمنا. فرجع ابن القرّية إلى الحجّاج فقال: أقرّ اللّه عينك، وجمعٍ شملك، وأنبت ريعك؛ على الثبات والنبات، والغنى حتى الممات؛ جعلها اللّه ودودًا ولودًا، وجمع بينكما على البركة والخير.
عوضت مصرًا
كان من سيرة الملك نور الدين زنكي الشهيد رحمه الله، المتوفى في دمشق سنة 569هـ، والذي أمضى حياته يجاهد الصليبيين، أنه كلما فتح الله عليه فتحًا، وزاده ولاية، أسقط عن رعيته قسطًا، حتى ارتفعت عنهم الظلامات والمكوس، وحدث أن أعفى رحمه الله أهل دمشق من المطالبة بالخشب، وكان ضمن الخراج ليعمل سفنًا وأحطابًا برسم المطابخ السلطانية، فورد الخبر باستيلاء عسكره على مصر، فكتب الحافظ ابن عساكر الدمشقي إليه يهنيه:
لمّا سمحتَ لأَهلِ الشّام بالخشبِ عُوّضتَ مصر بما فيها من النَّشَبِ
وإن بذلت لفتح القدس محتسبا للأجر جزيت خيرا غير محتسب
ولست تعذر في ترك الجهاد وقد أصبحت تملك من مصر إلى حلب
فقه الأولويات
قال أبو العباس الفضل بن محمد بن الفضل العلوي: قال عمي العباس بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب: أعلم أن رأيك لا يتسع لكل شيء، ففرّغه للمهم، وأن مالك لا يُغني الناس كلَّهم، فخُصَّ به أهل الحق، وأن كرامتك لا تُطيق العامة، فتوخَّ بها أهل الفضل، وأن ليلك ونهارك لا يستوعبان حاجتك، وإن دأبت فيهما، فأحسن قسمتهما بين عملك ودَعَتِك من ذلك، فإنما شَغَلَك من رأيك في غير المهم إزراء بالمهم، وما صرفت من مالك في الباطل فقَدته حين تريده للحق، وما عمدت من كرامتك إلى أهل النقص أضرَّ بك في العجز عن أهل الفضل، وما شغلت من ليلك ونهارك في غير الحاجة أزرى في الحاجة.
ضعف الطالب والمطلوب
خطب هارون يومًا على منبر أبيه المهدي في الرصافة، وهو متألم من مرض كان به والذباب يؤذيه، فأُرتِج عليه في خطبته، فاستأنف كلامًا عقد به الخطبة، وقال: أيها الناس.. انظروا إلى أجلكم منصبًا، وأفضلكم أمًا وأبًا، وأحسنكم وجهًا، وأنفذكم أمرًا، آذته ذبابة فلم يستطع لها دفعًا، قال الله تعالى: (يَا أيهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَاب ُشَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ).
اختلاف الرؤى والأحلام

أضف تعقيب