إنّ الصلاة عهد وميثاق بين العبد وربّه، وهي أمانة ثقيلة ورابطة متينة، بحيث إذا حسُنت تلك الرابطة انعكست آثارها على سلوكيات الفرد وأخلاقه وتصرفاته.
وما يؤكّد ذلك ما رَواه الطبرانِيُّ عن النبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنهُ قال: "أَوَّل ما يُحَاسَبُ بهِ العبدُ يومَ القيامةِ الصلاة، فإنْ صَلحَتْ صَلحَ لَهُ سَائِرُ عَمَلِهِ، وإِنْ فسَدَتْ فَسَدَ سَائِرُ عَمَلِهِ".
أي أنّ الذي لا يُصلِحُ صَلاَتَهُ من حيث الحفاظ على هيئاتها وآدابها وأركانها وشروطها دَخَلَ الخلل إلى سائرِ أعمالِهِ، ومَن كَانَتْ صَلاتُهُ تامة كاملة تكون سائرُ أَعمالِهِ صحيحةً على التَمَامِ.
ومن المحافظة على الصّلاة، المبادرة بها في أوّل مواقيتها، وفي ذلك فضل عظيم، وهو دليل على محبّة الله وعلى المسارعة في مرضاته ومحابِّه.
لذا قال أهل العلم: الصلاة في أوقاتها من أفضل القُرُبات، وقد قال تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) (آل عمران: 133)، أي: بادروا، قال الشوكاني في "فتح القدير": أي سارعوا إلى ما يوجب المغفرة من الطاعات. والصلاة في أول الوقت من المبادرة إلى الخيرات، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها" (أخرجه الشيخان).
وكان الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا حضر وقت الصلاة يتزلزل ويتلوّن وجهه، فقيل له: مالك يا أمير المؤمنين؟ فيقول: جاء وقت أمانة عرضها الله على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملتها.
ويروى عن علي بن الحسين: أنّه كان إذا توضأ اصفرّ لونه، فيقول له أهله: ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء؟ فيقول: أتدرون بين يدي مَن أريد أن أقوم؟!
أقول هذه الكلمات وكلّي ألم على ما أراه من التهاون في الأخذ برخصة الجمع بين الصلوات سواءً في السفر أم في المطر، بحيث أنّ هنالك بعض الحالات التي يجمع فيها بعض الأئمة استرضاءً للمصلين وتخفيفًا عنهم –بتوهمه- وهو لا يدرك أنّه قد أتى بابًا من أبواب الكبائر، وذلك لأنّ الجمع بغير عذر من الكبائر، كما بيّن ابن حجر الهيتمي في كتابه "الزواجر".
صور مغلوطة وشائعة بخصوص الجمع بين الصلوات لا تستقر على مذهب فقهي:
أولا: الجمع فيما دون مسافة القصر (أي أقل من 81 كيلو مترا): حيث درج كثيرون من النّاس على هذه العادة حتى أصبحت ظاهرة شائعة بين النّاس جميعًا؛ العوام والخواص.
هذا وإنّني لا أشك في حسن نوايا من يفعل ذلك، كما لا أشك في حرصه على أداء هذه الأمانة، فإنّ منهم أصحاب أوراد وقيام وعبادات قد لا تبارى، ولكن ما أوقعهم في ذلك إلاّ عدم دقة نقل الفتوى التي تتناقل عن المذهب المالكي بخصوص هذه المسألة.
ذلك أنّ المذهب الذي استقل بالقول بجواز الجمع في السفر القصير –أي أقل من مسافة القصر– هم فقهاء المالكية، وهذا قول معتمد عندهم، إلاّ أنّهم اشترطوا شروطًا قاسية تكاد لا تكون متحققة على أرض الواقع، وإليك هذه الشروط:
أولا: أن تزول عليه الشمس (أي يدخل وقت الظهر) وهو مسافر في مكان نزوله؛ أي إذا أراد شخص مثلا من منطقة الناصرة أن يجمع في أم الفحم فلا بدّ أن يدخل وقت الظهر وهو في أم الفحم وليس في الطريق إليها.
وأمّا إن دخل وقت الظهر عليه (أي بزوال الشمس) وهو سائر، أي في الطريق: فإن نوى النزول للاستراحة وقت الاصفرار أو قبله أخر الظهر وجمعهما مع العصر جمع تأخير، وإن نوى النزول بعد الغروب، فيجمع بين الصلاتين جمعًا صوريًا، فيصلّي الظهر في آخر وقتها الاختياري والعصر في أول وقتها الاختياري.
وصورة ذلك لو أنّ شخصا من النّاصرة مسافر إلى أم الفحم ودخل وقت الظهر في الطريق، وهو يعلم أنّه سيصل أم الفحم بعد دخول وقت العصر ولكن قبل الغروب، فيجوز له أن يؤخر الظهر إلى ما بعد العصر ويصلي جمع تأخير في أم الفحم، وأما إن كان سيصلي بعد الغروب فله أن يجمع جمعًا صوريا في الطريق، وذلك بأن يصلّي الظهر في آخر وقتها ويصلّي العصر بعد دخوله في أول الوقت.
قال الدردير في "الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك" (1\488)، طبعة دار المعارف: "وإن زالت الشمس عليه سائرًا أخرهما إن نوى الاصفرار أي النزول فيه أو قبله وإلاّ بأن نوى النزول بعد الغروب ففي وقتيهما الاختياري، هذه في آخر وقتها وهذه في أول وقتها وهذه أول وقتها جمعًا صوريًا، كمن زالت عليه سائرًا ولكن لا يضبط نزوله: هل ينزل بعد الغروب أو قبله فإنّه يجمع جمعًا صوريًا".
والمغرب والعشاء له نفس التفصيل السابق عندهم، بمعنى أنّه يشترط عند المالكية للجمع بين المغرب العشاء أن يدخل وقت المغرب على الشخص في مكان نزوله، وبناء على ذلك لو أنّ شخصًا من الناصرة أراد الجمع في أم الفحم بين المغرب والعشاء فلا بدّ أن يدخل وقت المغرب وهو في أم الفحم، فإن دخل وقت المغرب وهو في الطريق إلى أم الفحم، نظر: فإن كان يصل إلى أم الفحم بعد دخول وقت العشاء وقبل طلوع الفجر، أخر المغرب إلى ما بعد العشاء وجمعهما جمع تأخير في أم الفحم، وإن كان يصل أم الفحم بعد طلوع الفجر جمع في طريقه جمعًا صوريا وذلك بأن يؤخر المغرب إلى آخر وقته ثم يصلّي العشاء بعد دخوله في أول وقته.
قال الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير: "وأمّا من غربت عليه الشمس وهو سائر ونوى النزول في الثلث الأول أو بعده وقبل الفجر أخرهما جوازًا، وإن نوى النزول بعد الفجر جمع جمعًا صوريًا" [انظر: الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك، 1\489، دار المعارف].
ثانيا: أن ينوي الارتحال قبل وقت العصر والنزول للاستراحة بعد غروب الشمس، فإن نوى الاستراحة قبل اصفرار الشمس صلّى الظهر فقط وأخر العصر وجوبًا لوقتها الاختياري؛ ومعنى هذا الكلام أنّه لو أنّ شخصًا من مدينة الناصرة جمع في مدينة أم الفحم بين الظهر والعصر فلا بدّ أن ينوي الخروج مسبقًا من أم الفحم قبل دخول وقت العصر فإن كان يعلم أنّه سيدخل عليه وقت العصر وهو في أم الفحم فلا يجوز له الجمع، وكذلك لا بدّ أن ينزل للاستراحة بعد غروب الشمس في بلدة أخرى غير التي جمع فيها، ومعنى نزوله للاستراحة كأن يصل بلدته أو بلدة أخرى وتغرب عليه الشمس في البلدة التي نزل فيها، ومثال ذلك: لو أنّ شخصًا من الناصرة جمع بين الظهر والعصر في مدينة أم الفحم، فلا بدّ أن ينوي الخروج قبل العصر كما سبق وأن يصل الناصرة أو بلدة أخرى في طريقه مثلا بعد غروب الشمس، فإن كان يعلم أنّه سيصل بلدته أو غيرها قبل اصفرار الشمس (أي قبل الغروب بثلث ساعة) وجب عليه أن يصلّي العصر في وقته، فإن جمع أثم ولكن تصح الصلاة.
وأمّا إن كان يعلم أنّه سينزل للاستراحة بعد اصفرار الشمس ولكن قبل الغروب فهو بالخيار إن شاء جمع العصر مع الظهر وإن شاء أخره إلى وقت النزول للاستراحة، ووقت الاصفرار هو قبل الغروب بثلث ساعة.
وصورة ذلك لو أنّ شخصًا من الناصرة جمع في مدينة أم الفحم ونوى الخروج من أم الفحم قبل دخول وقت العصر وسيصل بلدته أو بلدة أخرى في طريقه مثلا قبل الغروب بـ15 دقيقة (وهو وقت الاصفرار) فهو بالخيار؛ إن شاء جمع العصر مع الظهر في وقت الظهر وإن شاء أخر العصر إلى وقت الاصفرار، وهو وقت النزول للاستراحة.
قال الدردير في "الشرح الصغير": "إن زالت الشمس على المسافر حال كونه نازلا بمكان –منهلا أو غيره– (والمنهل يعني المورد الذي يرده المستقي وغيره) ونوى عند الرحيل قبل وقت العصر النزول بعد الغروب، فيجمعهما جمع تقديم، بأن يصلّي الظهر في وقتها الاختياري ويقدّم العصر فيصليها معها قبل رحيله، فإن نواه -أي النزول- قبل دخول الاصفرار أخّر العصر وجوبًا لوقتها الاختياري، فإن قدمها أجزأته (ولكن مع الإثم لأنّ ترك الواجب إثم كما صرح في ذلك الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير، حيث قال: ولا يجوز جمعهما جمع تقديم، ولكن إن وقع فالظاهر الإجزاء)، وإن نوى النزول بعده أي بعد دخول وقت الاصفرار خيّر فيها فإن شاء قدمها وإن شاء أخرها وهو الأولى" (انظر الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك، ج1\ص489).
وكذلك بالنسبة إلى الجمع بين المغرب والعشاء، فإن جمع بين المغرب والعشاء فلا بدّ أن ينوي الخروج من مدينة أم الفحم قبل العشاء، فإن كان يعلم أنّه سيبقى لوقت العشاء في أم الفحم فلا يجوز له الجمع، وكذلك لا بدّ أن يعلم أنّه سيصل بلده أو بلده أخرى بعد الفجر أو بعد الثلث الأول من الليل، وأمّا إن كان يعلم أنّه سيصل قبل الثلث الأول من الليل فلا يرخص له بالجمع.
قال الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير: "وعليه إذا غربت عليه الشمس وهو نازل ونوى الارتحال والنزول بعد الفجر جمعهما جمع تقديم قبل ارتحاله، وإن نوى النزول في الثلث الأول أخر العشاء وجوبًا، وإن نوى النزول بعد الثلث وقبل الفجر خُيّر في العشاء والأولى تأخيرها" [انظر: حاشية الصاوي على الشرح الصغير، 1\489].
وبناء على ما سبق يتضح أنّ شروط الجمع بسبب السفر عند المالكية لا تكاد تتحقق من حيث الواقع العملي، وننصح بعدم تقليدهم في هذه المسألة وألا يجمع إلاّ في مسافة قصر وهي (81 كيلو مترا) فأكثر، ومع ذلك فالجمع خلاف الأولى أي أنّ الجمع ليس مندوبًا ولا مستحبًا كما يعتقد البعض، فالصلاة على وقتها أولى بلا خلاف، هذا إن تحققت شروطه، فما بالك إن لم تتحقق شروطه!!
نصائح وتوجيهات بخصوص الجمع بين الصلوات (1)
الشيخ د.مشهور فواز - محاضر في كلية الدعوة والعلوم الاسلامية
آخر تحديث 11/01/2012 07:49
أضف تعقيب