تقول صحيفة " ذي غارديان " في تقريرها إن الحكومة العراقية رسخت الفساد وجعلته ممنهجا يتورط فيه غالبية العاملين في صفوفها.
وخير دليل على ذلك حكاية الأرملة أم حسين التي تزين جدران بيتها بصور أبنائها القتلى والمفقودين، فهي تقول إن إبنها الأكبر قتل في 2005 برصاص مسلحين، و أربعة آخرين غادروا المنزل للبحث عن عمل لكنهم لم يعودوا وتبين فيما بعد أن مليشيات شيعية قامت بإختطافهم، ولم يبق منهم سوى ياسر.
حاليا تعيش مع بقية أفراد عائلتها- ابنة واحدة وابنها الأخير، ياسر، وستة من أحفادها اليتامى في شقة مكونة من غرفتين صغيرتين تنبعث من حولها رائحة المجاري، ويتسرب زيت الطبخ عبر ستارة رقيقة تفصل المطبخ عن غرفة المعيشة.
هذه الأم العراقية التي تجسد في حكايتها ملامح العراق منذ بدء الحرب، وتروي بالإنابة عن ملايين الأمهات العراقيات النصر التي حققته الولايات المتحدة في حربها على الأبرياء، وكذلك جرائم حلفاءها الذين نصبتهم على رقاب الخلق خلفها ، ويبدو أن ام حسين في الستينات من العمر ومصابة في إحدى عينيها. وهي ترتبك أحيانا وتتحدث بشكل مشتت عن الشباب المعلقة صورهم وكانهم احياء، ثم تصرخ على ابنتها لإحضار الشاي. وأخبرت "ذي غارديان" أن عليها أن تكافح لإطلاق سراح ياسر من السجن.
وقالت: "انتظرنا إلى أن أحضروه. كانت يداه ورجلاه مقيدة بسلاسل معدنية مثل مجرم. لم أتعرف عليه بسبب التعذيب. لم يكن هذا ابني، كان شخصا آخر. صرخت: أمك تموت من أجلك يا ولدي العزيز. أخرجت التراب من الأرضية ولطمت به وجهي. جروني خارجا ولم أره بعد ذلك".
وأضافت: "فقدت أربعة منهم. وأخبرتهم أني لا أريد أن أفقد هذا الابن".
بعد ذلك صرخ الضباط من داخل السجن طالبين رشى لإطلاق سراحه وأخبروا العائلة أنه يتعرض للتعذيب. وأخبرت آم حسين الضباط أنها ستدفع، لكنهم ظلوا يطلبون المزيد. في بادىء الأمر طلبوا مليون دينار عراقي (560 جنيها استرلينيا)، ثم مليونين ثم خمسة ملايين.
وأضافت: "اضطررنا لإرسال شرائح هاتفية لرجال الأمن ليتمكنوا من الاتصال بنا. قالوا: ابنك يتعرض للتعذيب- سيموت إن لم تدفعوا. ولذلك دفعنا ودفعنا. ماذا استطيع أن أعمل. هو الابن المتبقي لي. قلت إنني سأبيع نفسي في الشوارع من أجل إعادته".
جاءت المكالمة الأخيرة في كانون الأول (ديسمبر) حين طلبوا دفعة نهائية لإطلاق سراحه، وقد بلغت، حسب أم حسين وجيرانها، 9 ملايين دينار عراقي.
وأضافت: "طلبوا 60 ورقة من فئة المائة دولار. ثم قالوا 30. توسلت إليهم ولكنهم قالوا 30. قلت لهم إني لا املكها، فوافقوا على 20".
استقلت سيارة أجرة مع صديقة لها وذهبت إلى المكان المتفق عليه، وهو مسجد في طرف الحي. خرج السائق وسلم النقود لرجل وقف في ركن الشارع، وهو ضابط أمن شيعي يدعى رفيق.
أفرجوا عن ياسر بعد يومين. ولم تعرف أم حسين حينها. لكن قاضيا أمر بإطلاق سراح ياسر قبل ستة أشهر، وأبقاه رجال الأمن في المعتقل إلى أن دفعت عائلته رشوة مقدارها 2000 دولار أخرى.
وتقول الصحيفة إن حالة ياسر دليل آخر على فساد ضباط الأمن في الحكومة العراقية، الذين يعتقلون الناس بشكل ممنهج وبتهم وهمية ويعذبونهم ويبتزون أهلهم من أجل الحصول على المال، وتضيف أيضا أن الفساد المتغلغل في العراق أوجد صناعة جديدة يستغل فيها ضباط الأمن سلطتهم في احياء معينة من خلال رشوة السياسيين وصغار الضباط ودفع اتاوات شهرية لرؤسائهم، ويحصل الجميع على عائدات من خلال ابتزاز عائلات المحتجزين لدفع أموال لقاء الإفراج عنهم.
ويشير معد التقرير إلى انه قابل 18 معتقلا وخمسة ضباط في مختلف أجهزة الامن في بغداد. كل المعتقلين قالوا إنهم اضطروا لدفع أموال من اجل إطلاق سراحهم، رغم أن المحاكم برأت معظمهم. بعضهم سجن لثلاثة أيام والبعض الاخر مثل ياسر، سجن لمدة خمس سنوات.
وفي ثلاث حالات، غيّر الضباط "إفادات" المعتقلين-التي انتزع معظمها تحت التعذيب- من أجل المال. وفي أحدى الحالات، أخفى الضابط وثائق المعتقل مقابل رشوة وأفرج عنه بسبب غياب الأدلة. وما يزال أحد المعتقلين الذين قابلناهم في السجن، والمفاوضات جارية مع الضباط لإطلاق سراحه.
وفي حكاية آخرى تروى الواقع الآليم للعراق .. ففي الطابق الأول من مطعم في سوق راق ببغداد، حيث تتسلم نادلة الطلبات، يجلس رجال الأعمال ومسؤولون حكوميون في مقصورات منفصلة عن بعضها ويدخنون النارجيلة، التقينا عقيدا في وزارة الداخلية.
كان العقيد يرتدي بذلة سوداء، ويستمع إلى طلبات الناس الراغبين في الحصول على جوازات سفر، أو تأمين الإفراج عن قريب لهم أو التفاوض مع البروقراطيين العراقيين. وجلس ابنه السمين، الذي يعمل سكرتيرا وحارسا خاصا له، ومعه دفتر ملاحظات ومسدس.
وأوضح العقيد كيف أن الفساد المتغلغل في البلاد أدى إلى حالة استغلال في مجال ابتزاز عائلات المحتجزين الأبرياء. وقال: "كل شيء معروض للبيع، كل منصب في الحكومة هو للبيع".
واضاف: "تدفع 300 الف دولار لتحصل على وظيفة قائد امني أو قائد عسكري في احد الأحياء لمدة عام، وعليك أن تستعيد ما دفعته. إنه أشبه بالاستثمار. ولكن لا يمكنك أبدا أن تثق بأحد في هذه البلاد- يأخذون المال ويتآمرون عليك لاحقا ويلقون بك في السجن، هم كالذئاب".
وأوضح أن الفساد يمثل وسيلة لتملق الضباط من أجل كسب دعمهم، للسيطرة عليهم أيضا. عندما لا يريدون شخصا ما، يستطيعون اتهامه بالفساد. أنا أجلس فوق قنبلة موقوتة. وإذا لم أنضم إلى شبكات الضباط الفاسدين فسيهددون بنقلي إلى إحدى الوحدات العاملة في ميدان القتال. أقول لهم لا أريد أن اسرق، ولكنهم يستطيعون الاستمرار. أعلم أن كل شيء سيتغير ذات يوم وان كل الضباط الفاسدين سيمثلون أمام المحاكمة".
حكاية مؤلمة من العراق الجريح

أضف تعقيب