في سبيل العلم
قَالَ ابنُ أبي حَاتم -رحمه الله: سمعتُ أبي يقولُ: بَقِيتُ في البصرةِ في سنةِ أربعَ عشرةَ ومائتين ثمانيةَ أشهرٍ، وَكَانَ في نفسِي أنْ أُقيمَ سنةً فانقطعَت نَفَقَتي، فَجَعلتُ أبيعُ ثيابَ بَدَني شيئًا بعدَ شيء حَتى بقيتُ بلا نفقةٍ، ومضيتُ أطوفُ مَعَ صديقٍ لي إلى المشيخةِ وأسمعُ منهمْ إلى المساءِ، فانصرفَ رفيقي ورجعتُ إلى بيتٍ خالٍ، فَجَعلتُ أشربُ الماءَ من الجوع.
ثمّ أصبحتُ من الغد، وغدا عليّ رفيقي، فجعلتُ أطوفُ مَعَهُ في سماعِ الحديثِ على جوعٍ شديدٍ، فانصرفَ عني وانصرفت جائعًا، فلمّا كَانَ مِنْ الغد غَدَا عليّ فَقَالَ: مُرّ بِنَا إلى المشايخِ، قلتُ: أنا ضعيفٌ، لا يمكنني. قَالَ: مَا ضَعْفُكَ؟ قلتُ: لا أكتُمكَ أمري قد مَضَى يومانِ مَا طعمتُ فيهما شيئًا، فَقَالَ: قدْ بقي معي دينار فأنا أواسِيك بنصفهِ، ونجعلُ النصفَ الآخرَ في الكِراء، فخرجنا من البصرةِ وقبضتُ منه النصفَ دِينار.
أذكرك من ذكرت به
خطب أبو جعفر المنصور فحمد الله وأثنى عليه، فقال أحد السامعين: "أذكرك من ذكرت به"، فأجاب أبو جعفر بلا تفكير ولا روية: "سمعًا سمعًا لمن حفظ عن الله وذكر به، وأعوذ بالله أن أكون جبارًا عنيدًا، وأن تأخذني العزة بالإثم، لقد ضللتُ إذًا وما أنا من المهتدين، وأنت أيها القائل فوالله ما أردتَ بها وجه الله، ولكن ليقال: قام فعوقب فصبر، وأهْوِنْ بها لو كانت، وأنا أنذركم أيها الناس أختها، فإن الموعظة علينا نزلت، وفينا انبثت"، ثم عاد إلى الخطبة.
ومن يحصي حديث رسول الله
أخرج الخطيب في "الجامع " عن محمد بن أحمد بن جامع الرازي قال: سمعت أبا زرعة الرازي وقد قال له رجل: يا أبا زرعة، أليس يقال: حديث النبي صلى الله عليه وسلم أربعة آلاف حديث؟ قال: "ومن قال ذا؟! قلقل الله أنيابه، هذا قول الزنادقة، ومن يحصي حديث رسول الله؟ قُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مئة ألف وأربعة عشر ألفًا من الصحابة ممن روى عنه وسمع منه"، فقال له الرجل: يا أبا زرعة، هؤلاء أين كانوا وسمعوا منه؟ قال: "أهل المدينة، وأهل مكة، ومن بينهما، والأعراب، ومن شهد حجة الوداع، كل رآه وسمع منه".
من ترك شيئًا لله
يقول الشيخ محمد المختار الشنقيطي: أذكر رجلًا قبل عشر سنوات كان راتبه قرابة عشرة آلاف ريال من عمل ربوي، ولم يكن المبلغ بسيطًا وقتئذ.
جاءه رجل صالح فذكّره وخوفه بالله، فتأثر الرجل وترك عمله الربوي وهو في مرتبة عالية..
واللهِ لقد دخلَ في قلبه الخيرُ والصلاح، وعوَّضه الله، حتى إن دخله الآن في اليوم الواحد لا يقل عن مليون ريال، ناهيك عن البركة التي وضعها الله في ماله.. وهو مشهور جدًا بالجود والكرم والخير.. وأذكر أنني أراه قبل الأذان الأول في المسجد.
حتى تُعطى القلوب مناها
قال ابن القيم - رحمه الله: وقد أجمع السائرون إلى الله أن القلوب لا تُعطى مناها حتى تصل إلى مولاها، ولا تصل إلى مولاها حتى تكون صحيحة سليمة، ولا تكون صحيحة سليمة حتى ينقلب داؤها فيصير نفس دوائها، ولا يصح لها ذلك إلا بمخالفة هواها، وهواها مرضها وشفاؤها مخالفته، فإن استحكم المرض قتل أو كاد. وكما أن من نهى نفسه عن الهوى كانت الجنة مأواه؛ كذلك يكون قلبه في هذه الدار في جنة عاجلة لا يشبه نعيمَ أهلها نعيمٌ البتة، بل التفاوت الذي بين النعيمين كالتفاوت الذي بين نعيم الدنيا والآخرة، وهذا أمر لا يصدق به إلا من باشر قلبه هذا (الجواب الكافي).
جراح لا تندمل
قيل لامرأة: ما الجرح الذي لا يندمل؟ قالت: حاجة الكريم إلى اللئيم ثمَّ يردَّه.
قيل لها: فما الذل؟ قالت: وقوف الشريف بباب الدنيء ثمَّ لا يؤذنُ له.
قيل لها: فما الشرف؟
قالت: اتخاذ المنن في رقاب الرجال.
ثلاثة في ثلاثة
ثلاثة ضيّقة: سم الخياط، وعين الحسود، وكيس البخيل.
ثلاثة واسعة: الغرور، والأمل، وذم الكثيرين.
ثلاثة طويلة: ليالي البائس، وأيام الهم وانتظار الفرج.
ثلاثة قصيرة: الدعوى الفارغة، وصوت البقر، وطريق جنّهم.
إذا مُسخ القاضي حمارا
ذكر الحصري القيراوني في "جمع الجواهر": أن رجلًا أتى نخاسًا -تاجر الدواب- فقال: اشتر حمارًا ليس بالصغير المحتقر، ولا الكبير المشتهر؛ إن أشبعته شكر، وإن أجعته صبر، وإن خلا بالطريق تدفق، وإن كثر الزحام ترفق، لا يصدم بي السواري، ولا يدخل بي تحت البواري، إن ركبته هام، وإن ركبه غيري نام. فقال له النخاس: أنظرني قليلًا، فإن مسخ الله ابن أبي ليلى القاضي حمارًا اشتريته لك!
وهبتُ لكم شبابي فهَبوا لي شَيبَتي
أراد إياس بن قَتادة التميمي العبشميُّ، وهو ابن أخت الأحنف بن قيس، أن يقصد بشر بن مروان أمير العراقين لعبد الملك بن مروان، فنظر في المرآة فإذا بشيبة في لحيته، فقال: فليها يا جارية، ففلتها، فإذا هي بشيبة أخرى، فقال: انظروا من بالباب من قومي. فأٌدخِلوا عليه (وكان مطلوبا)، فقال: أرى الموتَ يطلبُني، وأَراني لا أفوته، أعوذ بك من فُجاءات الأمور وبَغَتات الحوادث، يا بني سعد، إني قد وهبتُ لكم شبابي فهَبوا لي شَيبَتي، ولزِمَ بيته، فقال له أهله: تَمُوت هُزلًا! قال: لأَنْ أموتَ مؤمنًا مهزولًا أحَبُّ إليَّ مِن أن أموت منافقًا سمينًا. واعتزل يؤذّن لقومه، ويعبد ربه، ولم يَغْشَ سلطانًا، حتى مات سنة 73هـ رحمه الله.
ولك بمثلها
وقفت امرأة للوزير حامد بن العباس على الطريق، فشكت إليه الفقر ودفعت إليه قصة كانت معها، فلما جلس وقع لها بمائتي دينار، فأنكر الجِهبِذُ -أي وكيل الصرف- دفع هذا القرار إلى مثلها، فراجعه. فقال حامد: والله ما كان في نفسي أن أهب لها إلا مائتي درهم، ولكن الله تعالى أجرى لها على يدي مائتي دينار، فلا أرجع في ذلك، أعطها. فدفع إليها.
فلما كان بعد أيام دفع إليه رجلٌ قصة يذكر فيها: إنّ امرأتي وأنَا كنا فقراء، فرفعت قصة إلى الوزير فوهب لها مائتي دينار، فاستطالت عليّ بها وتريد الآن إعناتي لأطلقها، فإن رأى الوزير أن يوقع لي من يكّفها عني فعل، فضحك حامد فوقّع له بمائتي دينار، وقال: قولوا له يقول لها: قد صار الآن مالك مثل مالها فهي لا تطالبك بالطلاق. فقبضها، وانصرف غنيًا.
أفرأي خير من رأي رسول الله
قال رجل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن عثمان في النار، قال: ومن أين علمت؟ قال: لأنه أحدث أحداثا، فقال له عليّ: أتُراك لو كانت لك بنت أكنت تزوجها حتى تستشير؟ قال: لا، قال أفرأيٌ هو خيرٌ من رأي رسول الله لابنتيه! وأخبرني عن النبي صلى الله عليه وسلم أكان إذا أراد أمرا يستخير الله أو لا يستخيره؟ قال: لا، بل كان يستخيره، قال: أفكان الله عز وجل يخير له أم لا؟ قال: بل كان يخير له، قال: فأخبرني عن رسول الله أخار الله له في تزويجه عثمان أم لم يخر له؟ قال: بل خار له، ثم قال علي: لقد تجردت لك لأضرب عنقك، فأبى الله ذلك، أما والله لو قلت غير ذلك ضربت عنقك!
الشيخ مصطفى صبري رحمه الله
يقول الشيخ الطحان: ذكر لي بعض إخواننا عن شيخنا الصالح عبد الرحمن زين العابدين قصة عن شيخ الإسلام الشيخ مصطفى صبري، عليه رحمة الله (توفي سنة 1373هـ)، وكان شيخ الإسلام والمسلمين في آخر خلافة إسلامية انقضت، وهاجر من تركيا بعد سيطرة الكماليين عليها.
هاجر إلى بلاد الشام ثم إلى مصر وعاش غريبًا فريدًا حتى لقي ربه.
عندما كان في بيروت جاءه بعض أصحابه ليسأله، وهو في الحقيقة يريد أن يعطيه، فجاءه في ليلة عيد الفطر وقال: تعلم أنني صاحب مكانة ووجاهة وجئت إلى هنا مهاجرًا، وسيدخل علي العيد وليس عندي شيء، فأريد أن تعطيني خمس ليرات ذهبية لأتوسع بها في يوم العيد وأصون وجهي أمام الناس.
يقول هذا الشخص: نظرت إلى الشيخ وقد احمر وجهه وبدأت الدموع تسيل من عينيه كالمطر وهو يلتوي كالحية.
فقلت: أخبرني ماذا عندك، لم تفعل هكذا؟
فقال: يفرج الله.
قلت: علمت حالك.
فقال الشيخ: سترنا الله في الدنيا، ونسأله أن يسترنا في الآخرة؛ والله ما عندي شيء أتعشاه في هذه الليلة فضلًا عن شيء أفطر به يوم العيد.
فقال: ما جئت لأسألك؛ أنا عندي عشر ليرات ذهبية وعلمت أنه سيدخل عليك العيد وهذا حالك بقرائن الأحوال، أتابعك من أيام.. وهذه خمس ليرات، نقسم العشرة بيني وبينك.
فقال الشيخ: لا آخذها.
قلت: ولله إن لم تأخذها قتلت نفسي –وأخرج مسدسًا ووضعه على جبينه– أنت شيخ الإسلام ويدخل عليك العيد وما عندك طعام تأكله؟!
يقول: حتى أخذها. وقلت له ليسهل عليه الأخذ: هي قرض ليست هدية؛ فإذا أيسرت تُردّ، وإلا فالله يسامحك".
جراح لا تندمل

أخبار ذات صلة
تعليقات
1
بارك الله فيك وجعلها في ميزان حسناتك
آلاء عراقي - 22/01/2012
أضف تعقيب