خرج هذه المرة من مسجد علي بن أبي طالب" المسجد القديم في قلنسوة، لكن على أكتاف ألرجال، بعد أن سار أمامهم سنين طويلة وهو يقول هلموا يا "ختيارية" فنحن الشباب. سار أمامهم يدعوهم إلى دين الله ولرفع راية الإسلام عالية حتى سلم الراية وأسلم الروح إلى بارئها.
هو الحاج محمد عوض رابوص الذي وافته المنية قبيل صلاة فجر الأحد عن 95 سنة، وقد سجي جثمانه الطاهر في المسجد القديم القريب من بيته لتودعه جماهير غفيرة من قلنسوة ومن الداخل الفلسطيني.
عرفته أول مرة في مستشفى هيلل يافه في الخضيرة، حيث وصل على رأس وفد من الحركة الإسلامية في قلنسوة لعيادة جرحى "أحداث الروحة "عام 1998،وهناك استمعنا منه إلى موعظة عن الصبر والالتزام والمحافظة على الحق، وعدم التفريط بأرض الإسراء والمعراج مؤكدا للجرحى أنهم سينتصرون بإذن الله.وكان يلقي الدرس بصوت هز جدران المشفى، دون أن يخشى في الله لومة لائم.
قال عن نفسه
قبل وفاة المرحوم الحاج أبي هاشم، بفترة زمنية ليست بالطويلة، زرته في بيته،ضمن سلسلة لقاءات مع الرعيل الأول تحت عنوان "ملح البلد". وكانت صحته قد تدهورت،وأصبح بحاجة لمن يعينه على قضاء حوائجه.ويومها حدثنا الحاج عن نفسه وقد كان موصولا بجهاز تنفس اصطناعي فقال: منذ كنت في الثامنة من عمري كنت أصلي ومنذ بلوغي وإلى يومنا هذا أصلي إماما.
ويضيف: كانت طفولتي وشبابي كلها في سبيل الدعوة إلى الله على كافة الأصعدة سواء كانت فردية أو جماعية.أنهيت المدرسة الثانوية سنة 1934م وكان مستوى التعليم آنذاك في مستوى الجامعة اليوم،وفورا عملت مدرسا للغة العربية والدين في قلنسوة ثم الطيبة لمدة سنتين، ثم لم يعجبني النظام الذي فرض علينا، فتركت مهنة التعليم وتعلمت مهنة التجارة الحرة وعملت فيها،وقد اهتممت في مطالعة الكتب والالتقاء بالعلماء،فكان عندي ديوان يأتي إليه العلماء وطلاب العلم، وكنا ننظم الدروس والمحاضرات حيث كان التدين يومها حكرا على كبار السن مع وجود قلة من الشباب الملتزم.
وفي يوم من أيام سنة 1934 كان المختار قد استدعي إلى القائم مقام في طولكرم، فقال لي: هل تستطيع أن تخطب الجمعة في المسجد؟ فقلت له: بالتأكيد. ويومها أعطاني كتاب الخطب الذي اعتاد كبار السن أن يقرؤوا منه الخطب حسب المناسبات، وعندما أعطاني الكتاب أشار لي من أية صفحة ستكون الخطبة، لكنني في اليوم المذكور صعدت المنبر بدون كتاب ولا ورقة وارتجلت خطبة بتوفيق من الله،لكن كانت بداية صعبة جدا حيث ارتعدت فرائصي يومها، ومن ثم واصلت في العطاء في المسجد وفي البلد بشكل عام.
لا أخشى في الله لومة لائم
يقول الحاج أبو هاشم: كان الدين مغيّبا، وكان الناس يعيشون في غابات الجاهلية وصحاري الضياع، حيث لم يكن في البلد سوى المسجد القديم.وعندما شيدنا المسجد الشمالي كنت أخطب الجمعة وألقي درسا مرة كل أسبوعين بالتناوب مع شيخ المسجد، وكان الناس يأتون ليسمعوا مني خطبة الجمعة، خاصة وأنني متمكن من اللغة العربية، وبعد فترة من الزمن استطاعت المخابرات الاسرائيلية أن تجند عددا من المصلين الذين طلبوا من شيخ المسجد أن لا يسمح لي بأن أخطب الجمعة وأن لا أسمع صوتي للناس، وبذلك منعت من الدعوة إلى الله في المسجد،كما حكم علي بالإقامة الجبرية، بالإضافة إلى التحقيقات، لكن هذا كله لم يحرك لدي ساكنا لأني لا أخشى في الله لومة لائم.
كانت حياة الحاج أبي هاشم مليئة بالأحداث التي لا يتسع المقام لسردها.فيوم أن كان المسجد الأقصى تخفق الرياح بأبوابه ويستغيث: أين المسلمون المصلون؟يومها ربط أبو هاشم علاقة وطيدة مع المسجد الأقصى، منذ الحرب العالمية الثانية. أما زيارته الأولى بعد عام النكبة 1948 فقد كانت بعد عام 1967. ويقول إن تلك الزيارة كانت ليلة 27 رمضان بعد عام 1967، حيث سافر مع جماعة من البلد، ويومها تزود ببطانية لينام هناك:"وعندما صلينا كانت الصلاة الأولى صلاة استسقاء ثم صلينا التراويح. وكان أربعة علماء يتناوبون على الدروس فانتهزت الفرصة وذهبت إلى الجهة الشرقية وبدأت ألقي درسا فقلت "أيها الأخوة المسلمون".. فالتفّ الناس من حولي، فتحدثت بعدة جمل هادفة بإذن الله واختتمت بقولي: "أكتفي بهذا القدر والسلام عليكم"، فجاءني رجل وأقسم أنه يحمل شهادة كبيرة في الشريعة لكنه يتمنى أن يتعلم عندي اللغة العربية. وبعدها جاء العلماء وطلبوا مني أن أواصل الحديث وتوجهوا إلى الإمام ليعطيني الفرصة.. وهكذا كان.. والحمد لله كان درسا موفقا يومها حتى أن أحد سكان المنطقة - وهو صديقي اليوم- قال لي: لقد تعرفت عليك ليلة القدر في الأقصى.
المرابط
لم تقتصر حياة المرحوم أبو هاشم على الدعوة،فقد عرف بأنه رابط مع المرابطين في قلنسوة في العام 1948وعن ذلك يقول: كنت مع المدافعين عن قلنسوة، وذات مرة طلبت من القيادة أن يزودونا بجهاز تلفون، حتى نبلغهم إذا ما حصل عندنا شيء فقيل لي: تعال وخذ الهاتف. وفعلا ركبت سيارة وذهبت إلى قيادة الجيش العراقي المتواجد في المنطقة وحصلت على الجهاز، وعند عودتي شاهدت مجموعة من الجنود العراقيين قد قيدوا مواطنا من القرية، ويريدون تنفيذ حكم الإعدام به رميا بالرصاص وسط طولكرم بتهمة التعامل مع العدو، فلما رأيته نزلت من السيارة وذهبت إليهم وقلت لهم: ماذا تفعلون؟ ثم فككت قيده الذي كان عبارة عن كوفيته. فاتصل المسؤول بالاتصال بالقيادة وحدثهم بما جرى، وقال لهم: لقد فعل أبو هاشم كذا وكذا. فقال له: "أهل مكة أدرى بشعابها".. وهكذا أنقذت إنسانا من القتل.
وصية
في آخر كلمات من الحاج المرحوم قال: أوصيكم معشر الشباب، معشر الدعاة، معشر المسلمين، وقرأ عن ظهر قلب هذه المقطوعة:
* إذا لم يكن من الموت بد فلماذا يموت الناس في سبيل الذل والهوان.
* إذن فليمت في سبيل الإسلام لكي لا يبقى طاغية في هذه الأرض المقدسة ولا يبقى استعمار غربي على وجه الأرض.
*هذه هي السبيل إلى ذلك، دفعتني لقولها صرخات قلبي الغيور على ديني، الشفوق على أمتي، وإني أعلم أني بتلاوتها سأتعرض لنفثات معينة.
* لكني أقولها: بئست الحياة أن تبقى ويفنى الإسلام،وقد فرض الله على العلماء والعارفين أن يقولوا الحق ولو كان مُرّا وأن لا يخشوا في الله لومة لائم.
وعشاق الحق لا بد أن يحيوا معه، وإلا فبطن الأرض خير من ظهرها.
* والأمة التي أعنيها ليست عشيرتي الأقربين إنما أعني الأمة الإسلامية، التي انتشرت في الأرض ولامست ترابها جبهات الساجدين وكل منهم يهمس بخشوع: سبحان ربي الأعلى.
هذه الأمة التي أحاط بها الطامعون والحاقدون هي التي أعمل لها وعليها، فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد.







أضف تعقيب