عند مداولة تجربة صلاح الدين الأيوبي تتنازعتني جهتان في تكييف النظر إلى هذه التجربة الغنيّة التي سجّلت حضوراً تاريخياً ونفسيّاً استثنائياً من خلال إنجازه الكبير بتحرير بيت المقدس من يد الفرنجة الصليبيين .
هذه التجربة الغنية تتطلّب دراسات فذّة ونوعية تهدف للإفادة من هذه التجربة ، وفق القاعدة التي تتعامل مع التجارب التاريخية أنها تجارب إنسانية في سياقها الفرديّ والجمْعيّ وأن ظروف كل تجربة هي ظروف إنسانية أيضاً ، وأن الاختلاف يجري في طبيعة الظروف وطبيعة النشأة واختلاف الشخوص والأقوام والمواد ... لكن التجربة تبقى في إطارها الإنسانيّ الذي يمكن رسم معالمه الكبرى من خلال رؤية مشهدية شاملة وليس بالضرورة أن تكون تفصيلية واضحة .
المنازعة الأولى في التجربة تأتي من البيئة المحيطة التي تتعامل مع هذه التجربة بالكثير من القداسة والاحترام والحصانة من النقد بالنظر إلى النتيجة الكبيرة التي حققتها، مما جعل أتباع هذه المدرسة يتعاملون مع التجربة بتجريدها ناحية المثال الذي ينبغي تقليده أو ملازمة مساره أو الاقتراب من ظله؛ وهي المدرسة التي أظهرت التجربة الصلاحية بأنها تجربة مثالية ناجحة في جميع الميادين العلمية والمعرفية والأدبية والفقهية والأمنية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية والنفسية والاعتقادية ... وأن الأخطاء الواردة هي أعراض جانبية طبيعية كانت محسوبة مدروسة .
هذه المدرسة مفيدة في اتجاه التعبئة العامة والتحريض الشعبي وإضاءة النموذج الممكن التحقيق ، وأن ما نجح فيه آخرون يمكننا أن ننجح فيه.
وترفض هذه المدرسة الاقتراب من الشخوص المقدّسة أو توجيه النقد الموضوعي لها إلا في أطر ضيقة مبرّرة لأن ذلك الاقتراب سيكون من شأنه الإضرار بالنماذج المثالية التي تحتاج الأمم لدهور لإعادة صناعتها.
المنازعة الثانية كانت تتجه صوب الدراسة الموضوعية التحليلية بعيداً عن قيود العاطفة الرغائبيّة أو حصانة المقدّس الموضوعي أو حتى رفضه لأسباب طائفية أو عرقية أو دينية ، تحاول هذه الدراسة أن تبحث في أسباب تحقيق هذا الإنجاز الكبير والسياق العام له دون مبالغة أو تضخيم أو تأويل أو مجاملة أو معاداة ، من خلال فحص السياق العام وفهم حقيقة التجربة ومقارنتها بالواقع الحالي من حيث وجوه المشابهة والمخالفة وقياس الإنجاز وجودته.
هذه الدراسة الموضوعية ستتيح لنا بيان الأداء العام للتجربة وكشف جوانب النجاح والخطأ فيها ، وستشرح لنا بعض مربّعات الأسئلة الكبيرة المحيّرة عن حقيقة المفاصلات الطائفية في التجربة الصلاحية ومدى صحتها ومدى عمومها، وستكشف لنا عن فلسفة تراكم الإنجاز وأثره في نجاح التجربة، وستتحدث عن طبيعة المشروع السياسي لصلاح الدين وعلاقته بالطموح الشخصي والتوجيه الديني ؛ وعن سر إصراره أن تكون القدس هي سُرّة المشروع السياسي القائم على توحيد الأقطار والشعوب وأهمية ذلك، وفهم سر عدم استمرار صلاح الدين في اقتلاع الوجود الصليبي من السواحل الشامية ومنحه فرصة للبقاء من خلال صلح الرملة نحو قرنين آخرين في حملات صليبية أرهقت الأمة واستنزفتها؛ وعن إصراره على سلوك سياسة الإقطاع العسكري في تقسيماته الإدارية والسياسية ، وعن كيفية تعامله مع المؤسسات الإعلامية والاقتصادية والفقهية وتحديد أدوارها في المشروع ، وعن طبيعة اهتمامه بالقيم السياسية والاجتماعية بين المراعاة أو الرفض أو ضعف الاهتمام .
وستكشف لنا على طبيعة حاجة المرحلة للأنظمة الشمولية أو المدنية ؛ كما ستشرح لنا كيفية السقوط السريع للدولة الأيوبية رغم تقديمها النموذج الأكثر شعبيّة ، وما دور السياسة الأيوبية التالية لصلاح الدين تجاه القدس في ضرب النموذج وهدمه كما كان دورها في إقامة النموذج ونصبه .
ما تزال القضية إشكالية ونحتاج في تصميمنا لمنهج النظر أن نراعي الأمرين معاً لئلا نفقد خيرات المدرستين، وهذا ما يستدعي إقامة مؤتمرات متخصصة لدراسة هذه التجربة وتقييمها ومحاولة احتذاء الممكن منها والإفادة منه في تحقيق العبرة وتخليص التجربة من العوالق الضارة بها.
* المدير العام لمؤسسة فلسطين للثقافة
دراسة التجربة الصلاحية ... المندوبات والمحذورات !

أضف تعقيب