بين حانا ومانا لن تضيع لحانا

الشيخ كمال خطيب - داعية وامام مسجد (كفركنا)
آخر تحديث 01/04/2016 15:21

هي قصة الرجل التي أصبحت مضرب الأمثال، وقد تزوج امرأتين، أما الزوجة الأولى وقد أصبحت في سن الكهولة، فكان اسمها "مانا"، وأما الزوجة الثانية وكانت صبية في مقتبل العمر، فكان اسمها "حانا".

كان الرجل إذا دخل على زوجته الصغيرة "حانا"، وهي تحاول أن تتودد إليه ليقترب منها أكثر من زوجته الأولى، ولتشعره أنه ما يزال شابا، كانت تقول له: "يا زوجي الحبيب، ما أجمل الشعر الأسود! إنه رمز الشباب والفتوة والرجولة، أما الشعر الأبيض فإنه رمز الشيخوخة والوهن"، ثم تنتف من لحيته بعض شعيرات الشيب البيضاء.

وكان إذا دخل على زوجته الأولى "مانا"، وهي تحاول أن تتودد إليه خشية أن ينشغل بالزوجة الثانية صغيرة العمر وينساها، ولتشعره أنه أصبح كهلا، كانت تقول له: "يا زوجي الحبيب، ما أجلّ الشيب! إنه رمز الوقار والهيبة.. أما الأسود فإنه يدل على صغر العقل والرعونة والطيش"، ثم تنتزع وتنتف بعض الشعيرات السوداء.

استمر الأمر على هذا الحال مدة من الزمان، هذه تنتف الشعر الأبيض، وهذه تنتف الشعر الأسود من لحيته، فوقف يوما ينظر في المرآة إلى لحيته ليجدها في حالة يرثى لها، وقد نتفت ومعطت، فقال بحسرة وهو يتنهد: "بين حانا ومانا ضاعت لحانا"!!!!
إن مثل الإسلام هذه الأيام كمثل ذلك الزوج من زوجته. فمن جهة فإنه تنظيم "داعش" وكل الفكر التكفيري ومن يمثله، والذين لا يرضيهم إلا أن يكون كل المسلمين مثلهم ومعهم، وإلا فإنهم كفار تُستحل دماؤهم وأموالهم وأعراضهم. ومن الجهة الثانية فإنهم أعداء الإسلام من القوى الغربية السياسية أو الدينية، وإنهم عملاؤهم من الطواغيت والحكام الفاسدين من العرب والمسلمين، الذين يحاولون التشكيك وتشويه كل من يخالفهم الرأي، أو لا يعمل وفق أجنداتهم، أو يعارض مصالحهم وسياساتهم، أو يسعى إلى التخلص من هؤلاء الحكام والطواغيت، فإن التهمة جاهزة: إنهم داعش ودواعش وتكفيريون وظلاميون.

ولكن حتما ويقينا إنه لن يصيبنا ما أصاب الرجل. حتما ويقينا إنها لن تضيع لحانا لا بين حانا ولا مانا، ولا بين الدعاديش الحقيقيين ولا بين الخفافيش الذين يتطاولون على الإسلام وينالون منه حربا وتشويها واستئصالا؛ تحت ستار محاربة داعش. وليس فقط أنها لن تضيع لحانا بين هؤلاء وأولئك، وإنما ستقطع اليد التي ستسيئ إلى الإسلام تشويها أو حربا، أيا كان صاحب هذه اليد.

لا، لن تضيع لحانا بين الفكر التكفيري المتعصب بجهل، وبين من يريدون الإسلام مجرد تراث ومظاهر وقشور، لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه ولا من القرآن إلا رسمه، محنط في المساجد، منقوش في الكتب. لن تضيع لحانا بين هؤلاء وأولئك. وكيف تضيع، وكيف ننحرف إلى أقصى التكفير، أو أقصى التفريط ونحن عندنا المنهج الوسطي: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) آية 143: سورة البقرة.

لا، لن تضيع لحانا بين من لا يعرفون الدعوة للإسلام إلا بلغة الدم والرصاص والقنابل، وبين من يعتبرون الإسلام ظاهرة تاريخية مضت، وأن الإسلام أصبح خارج الصلاحية، وأنه إذا كان يصلح أيام الجمل والخيمة وفي الصحراء فإنه لم يعد يصلح في القرن الحادي والعشرين؛ قرن التقنيات والعلوم الحديثة. لن تضيع لحانا بين هؤلاء وأولئك. وكيف تضيع وكيف ننحرف إلى أقصى زوايا الانغلاق، أو أقصى زوايا الانفلات، ونحن في اليوم الواحد ندعو الله سبحانه في الحد الأدنى ثلاثين مرة ونحن نقول: (اهدنا الصراط المستقيم)؟

لا، لن تضيع لحانا بين أنظمة دول في الخليج، تتظاهر بالغيرة على الإسلام ونصرته والدفاع عنه، بينما هي تقيم العلاقات مع تل أبيب بالسر والعلن، ولا بين نظام إيران التي تتظاهر بالغيرة على الإسلام ونصرته والدفاع عنه، وأنها تتسلح بكل الإمكانيات لتحرير القدس والأقصى، بينما نجدها تثير الفتن بين المسلمين ولا تخطط إلا لتصدّر ثورتها المذهبية السوداء؟

لا، لن تضيع لحانا بين علماء مسلمين ومشايخ من السنة أصحاب العمائم البيضاء الذين كانوا ينشرون بيننا الإسلام الأمريكي (أي الإسلام الذي لا يتحدث إلا بفتاوى الحيض والنفاس ونقائض الوضوء) ولا بين العلماء أصحاب العمائم السوداء من الشيعة، الذين كانوا يتحدثون عن أمريكا باعتبارها الشيطان الأكبر، وإذا بها وفجأة ومرة واحدة تتحول إلى الشقيق الأكبر لإيران، وليس الشيطان الأكبر.

لا، لن تضيع لحانا بين لحية "أبو بكر البغدادي"، الذي يريد أن يقيم دولة الخلافة الإسلامية في العرق والشام وفق مقاساته وفهمه، وينصب نفسه خليفة المسلمين وهو يقتل ويذبح من السوريين كل من يريد الوقوف في وجهه، ولا بين لحية حسن نصر الله الذي يريد أن يقيم دولة ولاية الفقيه الطائفية، تمتد من طهران حتى بيروت مرورا ببغداد ودمشق، عبر دعمه لبشار الأسد ابن طائفته، وهو يقتل ويذبح من السوريين كل من يريد الوقوف في وجهه.

لا، لن تضيع لحانا بين من يريدون أن يكونوا عكاكيز للاحتلال الإسرائيلي، يؤدون أقذر المهمات؛ وهي التنسيق الأمني معه، ومواجهة كل من يواجه الاحتلال، وإلا فإن من يخالفهم الرأي ويطالبهم بالكف عن هذا الدور، والعودة إلى الشعب وإلى خياراته، فإنه عند ذلك يصبح من القوى الظلامية، التي تحركها مراكز قوى إقليمية في اسطنبول وغيرها، كما يزعم هؤلاء، لا بل إن من يخالفهم الرأي يصبح ممن يشق صف الوحدة الوطنية، فهم يحتكرون الوطنية والشرف لهم وحدهم دون سواهم، مع أن الشرف والمروءة والوطنية باتت تبكي وتنتحب من أفعال أبطال التنسيق الأمني.

مررت على المروءة وهي تبكي
فقلت علام تنتحب الفتاة
قالت كيف لا أبكي وأهلي
جميعا دون خلق الله ماتوا

لا، لن تضيع لحانا، ولن تضيع ولن تتميع هوية شعبنا، ولن تتشوه بين أفكار داعشية منغلقة، ولا بين أفكار علمانية لا دينية تدافع عن الشذوذ وتدعو للرذيلة والإباحية، حتى لو تلفعت بعباءة القومية الوطنية، وحتى لو دعمتها أحزاب وشخصيات أيا كان اسمها.

لا، لن تضيع لحانا بين الاحتلال الإسرائيلي، الذي كان دائما يصر على تركيب كاميرات في ساحات المسجد الأقصى، بل وداخل المسجد القبلي ومسجد قبة الصخرة، لضمان مراقبة كل ما يجري ورصد كل من يقوم يواجه ويعترض على من يقتحمون ويدنسون المسجد الأقصى المبارك من اليهود والمستوطنين، وكان هذا طلبا تقدم به نتنياهو خلال مباحثاته في برلين فيما سمي تفاهمات كيري- نتنياهو في شهر تشرين الثاني 2015 بعد اندلاع انتفاضة القدس، إثر اقتحامات اليهود للمسجد الأقصى في موسم عيد الفصح 2015-10-4؛ فلن تضيع لحانا بين الاحتلال الإسرائيلي من جانب، والذي كان حريصا على تركيب الكاميرات، ولا بين الطرف الأردني، الذي يريد من تركيب الكاميرات رصد انتهاكات اليهود للمسجد الأقصى المبارك، وأنه هو من يتحكم بهذه الكاميرات، حيث قناعتنا اليقينية أن الاحتلال وبخبثه ودهائه سيكون قادرا على تحويل بث الكاميرات والتحكم بها، حيث هو من يمتلك ويسيطر على شبكة الانترنت في القدس. إننا لا نشكك في نوايا الطرف الأردني، ولكننا نحذر من خبث ومكر الطرف الإسرائيلي. ومع الأسف فإن المكر قد ينتصر على النوايا الحسنة.

إن خطة ومشروع أعداء الإسلام باستمرار وصفه بالإرهاب، فهذه ماكينته الإعلامية خلقت رأيا عاما عالميا يشيطن الإسلام ويشوه صورته، وذلك لتبرير حملهم العالمية عليه. ومخطئ من يظن ويعتقد أن هذا كان وليد هجمات نيويورك 2001، التي نفذها تنظيم القاعدة، أو هجمات باريس 2015، أو هجمات بروكسل 2016 والتي نفذها تنظيم داعش.

إن مشاريع الكيد والعداء للإسلام مشاريع مستمرة ومتواصلة، تأخذ لها أشكالا مختلفة ولافتات مختلفة، وسواء كانت حربا فكرية عبر الاستشراق، أو حربا دينية عبر التبشير، أو حربا عسكرية عبر مشاريع الاستعمار، أو حربا بالوكالة عبر دعم حكام وطواغيت من أبناء جلدتنا، أو حربا غير مباشرة عبر دعم المشروع الصهيوني، وآثار ذلك على الأمة كلها وليس فقط على الشعب الفلسطيني، بدأ هذا منذ النكبة عام 1948، لا بل إنه بدأ قبل ذلك؛ منذ وعد بلفور عام 1917.

إنهم لا يميزون ولا يفرقون بين من يرتكب عملا إجراميا؛ وأقولها بلا تردد ولا تلعثم، كما حصل في باريس وبلجيكيا، وبين الفلسطيني الذي يدافع عن وطنه ومقدساته، أو بين السوري الذي يقاتل نظاما إجراميا مستبدا قتل نصف مليون، أو بين المصري الذي يخوض ثورة شعبية سلمية لاسترداد حقه الذي اغتصبه الانقلابيون الذين دعمهم الغرب وساندهم ومولهم، في عملية سرقة أول إنجاز للشعب المصري بخلع طاغية جبار اسمه مبارك، وانتخاب رئيس شرعي هو محمد مرسي، لينقلب السيسي عليه ووصف من يرفضون انقلابه بالإرهابيين.

حكموا علي بأنني إرهـــــــابي
قالوا بأني قد فقدت صوابي
زعموا بأني مسلم متطــــــرف
والويل كل الويل للإرهابـــي
إن كان عز القدس صار تطرفا
فأنا أبيح تطرفي لصحابــــي
يا أيها الدخلاء هذا موقفــــــي
لن يدخل الجبناء من أبوابـي
يا أيها الغرباء هذا مذهبـــــــي
أمشي بهدي محمد وكتابــــي
إني لَشِبلٌ من أســــود محمــــد
والأُسْدُ تُخشى في نظام الغاب

إنهم بمواصلة وصف كل من يقول لهم ولمشاريعهم السوداء "لا"، بالإرهاب، ودمغتُه تلاحقه حتى يقول: لا، لست كذلك، لا بل لأن يبتعد عن الإسلام ونصرته والاعتزاز بهويته خشية أن تلاحقه لعنة الإرهاب والتطرف، يريدون منا أن نعيش بشعور المطارد والمتهم المدافع عن نفسه، المحشور في الزاوية، ولسان حاله يقول: "يا ناس، يا عالم، إحنا مش هيك، إحنا مش إرهابيين"، وظيفته فقط الدفاع لا الهجوم، والرد على ظلمهم وقهرهم. ومع إمكانية أن يصل الأمر بالبعض لهذا الحد وهذا الحال، فإنهم لن يرضوا ولن يكتفوا. ليس أنهم لا يريدوننا أن نكون مسلمين، ولكنهم طبعا لا يريدون أن نصبح على دينهم، لأن هذا بالنسبة لهم شرف لا نستحقه. إنهم يريدون لنا أن نكون مسوخا ومخلوقات وبشرا على هامش الحياة، بلا اسم ولا هوية.

لا، لن يكون لهم ذلك أبدا بإذن الله، ولن تضيع لحانا لا بين الشرق والغرب، ولا بين روسيا وأمريكا، ولا بين إيران والخليج، ولا بين البغدادي ونصر الله، إنها لن تضيع لحانا. وكيف تضيع ونحن نعلم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي حدث عن الزمان الذي يكون فيه المسلم القابض على دينه كالقابض على جمر، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه:(... حتى يصير الناس إلى فسطاطين؛ فسطاط نفاق خالص لا إيمان فيه، وفسطاط إيمان خالص لا نفاق فيه).

ليس أننا نرفض تهمة الإرهاب وحسب، بل إن غيرنا هم الإرهابيون وهم القتلة وهم الدمويون. وإن آثار ذلك تظهر بفعل جرائمهم في الماضي. وها نحن نراها رأي العين في الحاضر، إما بفعلهم المباشر أو بدعمهم لأفعال المجرمين والقتلة من بني جلدتنا. فيا أهل لندن وواشنطن وموسكو؛ أنتم عنوان الإرهاب والدماء. ولقد قال شاعرنا:

موسكــــــــو من مكة ذرة
ولندن من طيبــــة كالهبـــــاء
فمن طيبة شع نور الهدى
ومن واشنطن شاع سفك الدماء

فلن تضيع لحانا، ولن تنحرف بوصلتنا، ولن نكترث لنعيق غربانكم الإعلامية، أو السياسية التي تصفنا بالإرهاب والدموية، وسنظل نهتف وننادي في أسماع الدنيا أننا مسلمون، وسنظل نردد هتافنا الخالد: الله غايتنا، والرسول قدوتنا، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا.

لن تضيع لحانا، ولن نتيه بعد اليوم في دياجير ظلامكم وظلمكم، وإنما نحن الذين سنظل نفتخر بالإسلام، نطاول بهذا الفخر عنان السماء، ولسان حالنا يردد مع الشاعر:
أنا مسلم ولي الفخار فأكرمني
يا هذه الدنيا بدين المسلم
وأنا البريء من المذاهب كلها
وبغير دين الله لن أترنم
ولتشهد الأيام ما طال المـــدى
أو ضم قبري بعد موتي أعظمي
إني لغير الله لست بعابـــــد
ولغير دستور السما لن أنتمي

لا، لن تضيع لحانا، بعد اليوم، لا بين حانا ولا مانا. وإن اللسان الذي يتطاول على ديننا وإسلامنا سنخرسه، واليد التي تمتد سنقطعها، ومن يحاول أن يضربنا على خدنا الأيمن لن ندير له الخد الأيسر، وإنما سيتمنى لو أن أمه لم تلده، هذه ليست عنتريات ولا أوهام، وإنما هو واقع جديد سيراه أعداؤنا رأي العين، وإن غدا لناظره قريب.

أضف تعقيب

ارسل

تعليقات


أذهب للأعلى