من أشهر الأساليب التي تميز بها القرآن الكريم، في منهجية التنزيل وتبليغ الدعوة، هو الأسلوب القصصي: (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك)؛ (فاقصص القصص لعلهم يتفكرون)؛ (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب)، لا بل إن سورة كاملة من سور القرآن الكريم اسمها سورة "القصص".
ولعل أشهر القصص التي فصل فيها القرآن الكريم، وتناولها في عشرات السور ومئات الآيات كانت قصة بني إسرائيل، في إشارة واضحة من الله سبحانه إلى أن أبطال هذه القصة ستظل لهم علاقة وحالة تداخل مستمرة مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم، الذين أنزل هذا القرآن إليهم منهاجا ودستورا. إنها الحالة المستمرة، مع اختلاف المكان والزمان وأسماء الأشخاص الذين سيكونون أبطال المشهد في كل حين وحين.
وها هو فصل من فصول قصة بني إسرائيل نعيشه ونشهده لحظة بلحظة وساعة بساعة. إننا لم نقرأه في كتب التاريخ، بل إنه الذي يُكتب ونحن نرى أحداثه رأي العين، لا بل إننا جزء من هذه الأحداث، بل من صانعيها، مع الإشارة إلى أن في القرآن الكريم وردت آيات، وتحديدا في مطلع سورة "الإسراء" يشير كثير من المفكرين المعاصرين والمتخصصين في علوم القرآن إلى أنها تحمل دلالات واضحة لهذا العصر والزمان الذي نعيشه؛ إنها الآيات التي مطلعها: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى...) إلى قوله سبحانه: (فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مره وليتبروا ما علوْا تتبيرا).
وها هو الزمان يدور، وها هو فصل من فصول قصة وحكاية بني إسرائيل تحبك تفاصيله، وها هو المسجد الأقصى يقع تحت الاحتلال الإسرائيلي منذ 49 سنة، وهي المرة الثانية في تاريخ المسجد الأقصى منذ الفتح الإسلامي، حيث كانت المرة الأولى التي وقع فيها الأقصى تحت الاحتلال كانت خلال الاحتلال الصليبي، الذي استمر قريبا من تسعين سنة.
ولأننا على قناعة مطلقة بأن نهاية الاحتلال الإسرائيلي للمسجد الأقصى ستكون مثلما انتهت فترة الاحتلال الصليبي، وسينتهي معها فصل بل لعله الفصل الأكثر تراجيدية في حياة بني إسرائيل (المشروع الصهيوني- بلغة العصر).
إنني لا أدري هل من سوء حظ بني إسرائيل (المشروع الصهيوني) أنهم جعلوا على رأس قيادة مشروعهم شخصا مثل نتنياهو، أم أن سوء حظ نتنياهو أنه جاء في هذه المرحلة التي تكتب فيها نهاية فصل هام وخطير من فصول حكاية وقصة بني إسرائيل (المشروع الصهيوني)، حيث سيكتب التاريخ أن نتنياهو كان آخر وأشهر رموز هذا الفصل، بل لعله سيكتب أنه كان هو من هدم المدماك الأخير، وكتب الصفحة الأخيرة من فصول هذه الحكاية.
ها هي الحكومة الإسرائيلية؛ واجهة المشروع الصهيوني، الذي هو واجهة بني إسرائيل، تستغل بأقذر الأساليب الوضع الدولي والإقليمي والعربي والفلسطيني لتنفيذ سياستها وقناعتها الدينية في القدس عموما والمسجد الأقصى على وجه الخصوص، عبر مشاريع الحفر والبناء تحت الأقصى وحوله، والاقتحامات والتدنيس من قبل المستوطنين والجماعات الدينية اليهودية، مقابل التنكيل والإبعاد والاعتقال للمسلمين، رجالا ونساء، عن المسجد الأقصى المبارك.
ثم جاء القرار الجائر والظالم بحظر الحركة الإسلامية يوم 17-11-2015، والذي كان سببه الرئيس معاقبة الحركة الإسلامية على دورها المبارك في نصرة القدس والمسجد الأقصى، ورفع الاهتمام بها، وبيان المخاطر والاستهداف الإسرائيلي للمسجد، فلقد جاء قرار الحظر في أوج الهبة المقدسية المباركة التي انطلقت دفاعا عن المسجد خلال انتهاكات واقتحامات عيد رأس السنة العبرية وعيد الغفران يوم 4-10-2015.
كما أننا على مسيرة أسبوعين من موسم الأعياد والاقتحامات السنوي الجديد، تزامنا مع عيد الفصح اليهودي يوم 23-4-2016 فإن المؤسسة الإسرائيلية راحت تعد العدة وتمارس كل أشكال التضييق على المسلمين في الداخل الفلسطيني والقدس الشريف لتضمن وجود موسم انتهاكات هادئ ومطمئن للمقتحمين والمدنسين اليهود، الذين دعوا لاقتحامات جماعية ما بين 24-28/4.
ولقد شهدت الأيام الماضية عشرات أوامر الإبعاد والاعتقال لشبان مقدسيين اعتادوا الحضور اليومي في المسجد، واعتقال وإبعاد الناشطتين المقدسيتين الفاضليتين سحر النتشة وهنادي الحلواني، لا بل وصل الصلف الإسرائيلي حد إصدار عشرات أوامر الإبعاد لشبان وكهول من الداخل الفلسطيني عن المسجد الأقصى، لا بل جرى اعتقال سائقي الحافلات التي تقل المصلين، ثم بعد الاعتقال كانت أوامر إبعاد لهم، ولكن ليس قبل حجز الحافلات نفسها، وتغريم الشركات صاحبة الحافلات بعشرات آلاف الشواقل تحت تبريرات سخيفة، وكل ذلك في محاولة للحد من الزخم الشعبي المبارك والتواصل والحشد من أهلنا في الداخل الفلسطيني مع المسجد الأقصى المبارك، خلال الفترة القادمة؛ فترة الأعياد اليهودية، ليتسنى لهم اقتحام المسجد الأقصى وإقامة شعائرهم الدينية بعيدا عن أية مظاهر وأحداث تزعجهم وتفسد عليهم مخططاتهم.
لقد أشاعت المؤسسة الإسرائيلية فرية وجود تنظيم اسمه "المرابطون والمرابطات"، أعلنته تنظيما إرهابيا محظورا، ليضمن لها ذلك التعريف الفضفاض القدرة على اتهام كل من يتواصل مع المسجد الأقصى، رجالا ونساء ممن لهم حضور مميز وتأثير مبارك، وإصدار أوامر اعتقال وإبعاد لهم عن المسجد بادعاء انتمائهم لتنظيم محظور.
ثم أعلنت حظر الحركة الإسلامية وكل مؤسساتها التي كانت تقوم على خدمة ونصرة المسجد الأقصى المبارك، وأصدرت أوامر إبعاد ظالمة بحق قيادييها ومنع من دخول المسجد الأقصى وكل مدينة القدس الشريف، وتجدد أوامر المنع كلما انتهت، وهكذا في حالة مستمرة من الاستهداف والتضييق.
يبدو أن نتنياهو وحكومته، وفي ظل الظروف الفلسطينية والعربية والإسلامية والعالمية، قد ظنوا بأنها الفرصة التاريخية لتحقيق نبوءاتهم الدينية السوداء لهدم المسجد الأقصى وبناء هيكلهم المزعوم على أنقاضه، وفي التالي إسدال الستار على حقبة سوداء للشعب اليهودي عاشها دون هيكل، وفتح حقبة جديدة حيث لهم فيها دولة وعاصمة هي القدس، وهيكل توراتي ينتصب وسط القدس مكان المسجد الأقصى، وحيث الملك والزعيم التاريخي، الذي سيسجل تاريخ الشعب اليهودي له الفضل في ذلك، هو بنيامين نتنياهو؟؟!!
لم يدر في خلد نتنياهو- وهذا من سوء خطة ونكد طالعه- أن ما تشهده المنطقة والعالم، ورغم قسوته وفظاعته، ورغم مآسي المسلمين في هذه المرحلة، إلا أن كل العقلاء والمراقبين، ومنهم إسرائيليون ويهود، يجمعون على أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني سيظل يتصدر المشهد، وإن إسرائيل لن تبقى جزيرة آمنة في ظل هذا التسونامي، الذي يجتاح المنطقة، خاصة وأن الصراع اتخذ الطابع الديني الإيديولوجي الحضاري، لم يدر في خلد نتنياهو أن هذه الأحداث ستكون ذروتها بكتابة الفصل الأخير من حكاية المشروع الصهيوني، لأنه توهم أن الانقلاب على الإسلاميين في مصر وتولي السيسي عميلهم للسلطة في مصر، وأن خراب سوريا واستمرار بقاء بشار الأسد في الحكم، وأن بقاء واستمرار وجود "أبو مازن" في الرئاسة الفلسطينية يعني صمام الأمان لإسرائيل لفترة قادمة غير قصيرة. إن نتنياهو - على ما يبدو- لم يسمع بما قاله الخبراء العسكريون والإستراتيجيون الإسرائيليون الذين قالوا إن حالة الشرق الأوسط تشبه إلى حد كبير حالة الكثبان الرملية، إذ يمكن أن تجد كثبان رمل في الصباح في منطقة، لتمر من نفس المكان مساء فلا تجدها لأن الريح قد ذهبت بها بعيدا. نعم، إن نتنياهو ولسوء طالعه يحاول أن يتجاهل أن زوال وخلع الزعماء الفاسدين كلهم هي مسألة وقت، وأن عودة الشعوب إلى هويتها الحضارية، حيث ظهر ذلك جليا خلال ثورات الربيع العربي، ليس له إلا معنى واحدا وهو أن الشعوب لا تريد ولن ترضى بغير الشرفاء الأطهار، أصحاب الفكر الديني والوطني النظيف.
وإن استمرار طرْق نتنياهو على جدار القدس، واستمرار استهداف المسجد الأقصى المبارك يزيد في تأصيل الهوية الإسلامية فلسطينيا وعربيا وإسلاميا.
ولأن نتنياهو مغرور فإنه لا يقرأ التاريخ، وإذا قراه فإنه لا يستلهم منه العبر والعظات. إنه لا يعلم كم هم الغزاة والمحتلون، وكم هي الجيوش التي عبرت من القدس أو احتلتها، لكن أيا من هؤلاء والغزاة لم يكتب له في القدس البقاء، ولعل الاحتلال الإسرائيلي هو آخرها. وللمفارقة فإنه أقصر احتلال ، إذا ما قورن بالاحتلال الصليبي، الذي مكث قريبا من تسعين سنة، ولكنه رحل وطرد شر طِردة، يتجرع كأس الذل شربه في حطين.
إنه المسجد الأقصى يا نتنياهو؛ ولكنك بغبائك الذي أضيف إليه غرورك وسكرة الزعامة التي تعيشها، لم تدرك أن مغامرتك هذه غير المحسوبة ستقودك وشعبك ومشروعك إلى الهاوية.
إن على صخرة الأقصى وصخرة القدس قد تحطمت زعامات وإمبراطوريات وعظماء ودول يا نتنياهو! وإنه على نفس صخرة الأقصى ستتحطم قرونك وآمالك وأحلامك ومشروعك..
كناطح صخرة يوما ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنَه الوعلُ
إنها صخرة القدس ليست في معانيها الإيمانية والوجدانية فقط، وإنما في معانيها النضالية، حيث أخذ المقدسيون وكل الفلسطينيين من صخرة الأقصى الصلابة والعناد، ولذلك فإن رهانك الفاشل على كل وسائل كسر شوكتهم لن تنجح، مهما خدمك الخدام وتآمر لخدمتك المتآمرون.
منذ بضع سنوات كتب المحلل السياسي لصحيفة " يديعوت أحرنوت" ناحوم بارنييع مقالته بعنوان "إسرائيل قصة قصيرة"، تحدث فيها عن لقاء جمعه بمؤرخ يهودي أمريكي في عيادة طبيب أسنان يهودي في نيويورك وهو صديق لكليهما، وقد سأل الطبيب ذلك المؤرخ عن آخر مشاريعه في الكتابة فقال له: (إنني أكتب تاريخ دولة إسرائيل)، فقال له الطبيب مبتسما: (إذًا أنت من كتّاب القصة القصيرة)، يقصد أن تاريخ إسرائيل قصير، وقصتها توشك فصولها عن أن تنتهي وتزول.
إنه المسجد الأقصى يا نتنياهو، على صخرته ستتكسر وتتحطم قرون الطين التي تناطح بها. وإذا كنت تستغل كل الظروف من حولنا لبناء الهيكل وفتح صفحة جديدة من صفحات مجد المشروع الصهيوني، فإنني أقول لك: تملأني الثقة واليقين أنك بهذا إنما تكتب الأسطر الأخيرة من الفصل الأخير من حكاية المشروع الصهيوني، وإن غدا لناظره قريب.
وليس أدل على ذلك مما ختمت به مقالتها الكاتبة الصحافية الإسرائيلية المتخصصة بالشؤون العربية في الشرق الأوسط " سمدار بيري"، والذي نشرته في صحيفة "يديعوت أحرونوت" يوم الأحد الأخير 3-4-2016 وكان بعنوان "عند جارتنا الجنوبية مش ماشيه الأمور مع السيسي" حيث قالت: (مش ماشية الأمور مع السيسي، رغم التصريحات المتفائلة التي يطلقها. حتى أجهزته الأمنية غير قادرة على إخفاء الخلافات الداخلية بينها. في إسرائيل يراقبون ويتابعون ما يجري بصمت. حتى كلمة واحدة عن حقوق الإنسان هناك لا تقال. فليس هذا ما يهم إسرائيل، ولا حتى التفجيرات التي تقع هناك يوميا. فمن وراء الستار السيسي هو صديق ودود لأجهزتنا، وهؤلاء حتما ويقينا قلقون ومهمومون مما تمر به جارتنا الكبرى الجنوبية).
أضف تعقيب