الشيخ كمال خطيب:

معركة حلب؛ التوقيت والدلالات

الشيخ كمال خطيب
آخر تحديث 15/04/2016 09:12
 
ما إن يهل هلال رجب حتى نتذكر ليلة السابع والعشرين منه، فإذا كانت ليلة السابع والعشرين فإننا نعيش أجواء ذكرى الإسراء والمعراج، فإذا عشنا هذه الأجواء فإننا نحط في رحاب القدس والأقصى وتحريرهما من الصليبين، فإذا كنا في ساحات القدس والأقصى فحتما سيقفز القلب وتعود الذاكرة إلى حلب، وقبلها إلى دمشق، وقبلها إلى القاهرة، حيث أهم وآخر المواقع التي حررها الفاتح صلاح الدين قبل أن يصل إلى القدس ويحررها من الصليبين ليلة السابع والعشرين من رجب؛ ليلة الإسراء والمعراج.
 
لقد أدرك البطل المسلم الكردي صلاح الدين الأيوبي أنه لا يمكن تحرير القدس والمسجد الأقصى من براثن الاحتلال الصليبي الجاثم على صدر القدس منذ ثمانين سنة يومها إلا بتخليص أهم عاصمتين حول القدس؛ القاهرة ودمشق. فأما القاهرة فإنها تحت الحكم الفاطمي العبيدي الشيعي، الذي قدم التسهيلات، وأقام التحالفات مع الاحتلال الصليبي.
 
وأما دمشق فإنها تحت حكم أمراء عملاء فاسدين أقاموا اتفاقيات ومعاهدات مع الصليبين نكاية بأبناء عمومتهم بل إخوانهم أمراء حلب وحمص وغيرهما.
 
إن صلاح الدين الأيوبي، بفهمه الاجتماعي وبراعته العسكرية، قد أردك أن خلاص مصر من حكم الفاطميين في مصر، ليس معناه بدء معركة تحرير القدس، لذلك ترك القدس وتوجه شمالا إلى سوريا ليبدأ معركة تحرير دمشق وتخليصها من أيدي العابثين طلاب الزعامة من أمراء فاسدين، وصل بهم التردي الأخلاقي والديني أنهم تحالفوا وعقدوا اتفاقيات دفاع مشترك مع الصليبي، الذين يحتلون بلادهم وأوطانهم ومقدساتهم، وذلك ليكونوا لهم عونا وسندا ضد أبناء عمومتهم من أمراء فاسدين أمثالهم في حلب وحماة وغيرهما.
 
إن معركة القدس وخلاصها، إذًا، لا بد أن تأتي بعد خلاص وتحرير القاهرة ودمشق وحلب، وهذا ما كان.
فتحت القاهرة وفتحت دمشق وفتحت حلب. ويوم فتح حلب قام الشعراء والخطباء يشيدون بفضل صلاح الدين وشجاعته. وكان أحدهم الخطيب القاضي محيي الدين بن الزكي قاضي دمشق، الذي قال قصيدة كان منها قوله:
وفتحكم حلبًا بالصيف في صفرٍ مبشرٌ بفتوح القدس في رجب
 
ولقد تحقق ما قاله الخطيب ابن الزكي، إذ بعد فتح حلب بأربع سنوات وإذا بصلاح الدين يفتح القدس وينتصر على الصليبيين ويطردهم منها، ويدخل إلى المسجد الأقصى ليلة الإسراء ليلة 27 من رجب. ولقد تذكر صلاح الدين، بل إنه لم ينس، ما قاله قاضي دمشق ابن الزكي. ولأن الله سبحانه قد حقق أمله وفتحت القدس في رجب بعد حلب، فلقد أكرمه صلاح الدين بأن كلفه بأن يكون خطيب الجمعة الأولى في الأقصى بعد تحريره من الصليبيين، لا بل إنه خطب على المنبر الذي كان السلطان نور الدين زنكي قد أمر ببنائه ليكون هدية للمسجد الأقصى يوم الفتح، (وقد أدركته المنية قبل أن يحقق أمنيته)، فأحضره صلاح الدين إلى الأقصى، وهو المنبر الذي أحرقه "دينيس روهان" يوم 21-8-1969 أي بعد الاحتلال الصهيوني للقدس.
 
ما أشبه الليلة بالبارحة! فها هي القاهرة ودمشق أهم عاصمتين حول القدس.. القدس التي وقعت تحت الاحتلال ثانية، لكنه ليس الاحتلال الصليبي، وإنما الاحتلال الصهيوني. وها هي مصر تحت إمرة وحكم حاكم ظالم عميل يقيم العلاقات، بل إنه كنز استراتيجي لمن يحتلون القدس والأقصى؛ إنه السيسي. وها هي دمشق تحت حكم طائفي نصيري أشد طائفية من حكم الفاطميين العبيديين، تدعمه إيران الطائفية الشيعية؛ إنه بشار الأسد.
الغريب واللافت أن إيران وحلفاءها من ميليشيات العراق وأفغانستان وحزب الله؛ هؤلاء الذين منذ عشرات السنين وهم يتحدثون ويرفعون شعار تحرير القدس، وأقاموا لذلك جيشا في إيران سموه جيش القدس! ها هي إيران تزج بجيوشها الرسمية وميليشياتها في سوريا، وها هو حزب الله نسي دوره "المقاوم" في جنوب لبنان، وها هو بشار ينسى أن الجولان محتل منذ 49 سنة، وإذا بكل هؤلاء يعدون العدة لمعركة حلب. 
 
إن الجولان السوري المحتل هو الأقرب إلى القدس يا إيران ويا بشار! نعم، إن الجولان وليس حلب على حدود فلسطين والأقصى، ولذلك فإن تحرير القدس اليوم لا يمر عبر حلب، وإنما يمر عبر الجولان، فلماذا هذا التزييف للحقائق والأهداف؟!
 
خلال احتفال تأسيس الجيش العراقي في العام 1936، حيث كان العراق يومها تحت الاحتلال والاستعمار البريطاني، وقف وزير الدفاع العراقي مفتخرا ليقول: (لقد أصبحت لدينا اليوم طائرات بها نستطيع أن نقصف القاهرة). يا سبحان الله! ولماذا القاهرة بالذات؟ ألم يكن للعراقيين يومها أعداء إلا القاهرة حتى يقصفوها؟! وعلى سنّة زير الدفاع العراقي فإنهم جنرالات إيران، الذين طالما أشبعونا عنتريات بأن لديهم صواريخ قادرة على ضرب العمق الإسرائيلي، وإذا بالصواريخ الإيرانية تضرب العمق الشعبي السوري، وإذا بشعار "الموت لإسرائيل" قد تحول إلى "الموت للشعب السوري والشعب العراقي" وليس لإسرائيل ولا لأمريكا.
 
وإذا كان الفاتح صلاح الدين قد أدرك ضرورة تحرير القاهرة وتحرير دمشق قبل تحرير القدس من الاحتلال الصليبي، فإن قادة الاحتلال الصهيوني اليوم، والذين يحتلون حاكما لدمشق، لأنه ما دام في القاهرة ودمشق أمثال هؤلاء فهذا يعني أن الطريق إلى القدس ما زال طويلا، بل إنه ما زال آمنا.
 
رغم التأكيدات، ورغم صور القتلى بل والأسرى الإيرانيين في سوريا، إلا أن النظام الإيراني كان ينفي وجود قوات رسمية، بل يسميهم مستشارين، إلا أن الأمر اختلف قبل أسبوعين، حين أعلن رسميا عن إرسال قوات خاصة من اللواء 65 في الجيش الإيراني، مع التأكيد أن غيرها سيصل إلى سوريا، مع أن معلومات لخبراء ومختصين وأجهزة استخبارات دولية وشخصيات إيرانية معارضة قد أشارت إلى وصول 60.000 جندي إيراني إلى سوريا، وتحديدا لحسم معركة حلب.
 
إنها، وكما سمحت أميركا لإيران بالسيطرة وفرض نفوذها على العراق بعد الاحتلال عام 2003 فها هي تسمح لإيران بالسيطرة وفرض نفوذها على سوريا.
 
وفي المقابل اعترفت الولايات المتحدة بوجود وحدات خاصة أمريكية تقاتل في سوريا (أشارت بعض التقارير أن عددهم يصل إلى ثلاثة آلاف جندي، وأشارت تقارير أخرى إلى أن عددهم أضعاف ذلك).
 
ولقد سمعنا مطلع الأسبوع عن دور ما يسمى"لواء القدس" المشكل من ميليشيات شيعية من دول مختلفة تموّله إيران، يدعم نظام بشار في مهاجمة مناطق على أطراف مدينة حلب استعدادا للمعركة الفاصلة. فما هي معركة حلب هذه يا ترى؟!
 
يوما بعد يوم تزداد وضوحا ملامح ما يجري في الشام من أحداث، وأن أعداء أمتنا يتحركون وفق قراءات دينية، وليس وفق استراتيجيات سياسية وعسكرية مجردة. وها نحن في الذكرى الثالثة عشرة للاحتلال الأمريكي لبغداد 9-4-2003، وإذا بوسائل الإعلام تتحدث عن جملة كان يرددها الرئيس الأمريكي بوش لما قال: (إننا احتللنا العراق لأننا أردنا منع سبي بابلي جديد)، يقصد منع سبي اليهود على يد العراقيين وصدام حسين، كما حصل من سبي العراقيين البابليين لليهود بقيادة "نبوخذ نصر" عام 589 قبل الميلاد، فكان تدمير العراق كرمى لعيون إسرائيل!!.
 
إن احتلال العراق كانت له دوافع وقراءات دينية. وإن إرسال قوات إلى سوريا له قراءات ودوافع دينية، وإن لمعركة حلب، التي نحن في مقدمات استعداداتها كذلك دوافع وقراءات دينية؛ سواء كان ذلك عند الغرب أو عند إيران أو عند المسلمين. فهي معركة حلب في نصوصنا الإسلامية، وهي معركة "هرمجدون" في نصوص أهل الكتاب.
 
إنه الحديث الصحيح الذي رواه الأمام مسلم عن آبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق، فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ...). وورد في شرح الإمام النووي للحديث أن الأعماق ودابق موضعان بالشام بالقرب من حلب.
 
وإن الأعماق وردت في حديث آخر بلفظ "العميق": (يجيء الروم في ألف ألف من الناس؛ خمسمائة ألف في البحر، وخمسمائة ألف في البر ينزلون أرضا يقال لها العميق). ومن هنا فلعلنا نفهم أصل السماء التي يطلقها تنظيم "داعش" على صحيفته الالكترونية "دابق"، ووكالة إنبائه المعروفة باسم "أعماق"، حيث عبر هذا يريد إقناع المسلمين بأنه هو المقصود بالأحاديث الشريفة من أنه هو من يمثل المسلمين وينتصر لهم، مع قناعتي وتأكدي أن ليس بهؤلاء ينتصر الإسلام.
 
إن استخدام إيران وحزب الله مصطلحات رنانة، لها بعدها الديني؛ وخاصة القدس والأقصى، إنما يأتي لإخفاء حقيقة مشاريعهم في تمزيق الأمة، كما كان هذا ديدن الصفويين على مدار التاريخ. ولعل اتفاقية إيران مع أميركا قد كشفت المستور عن حقيقة إيران وموقفها من الغرب عموما، ومن أميركا وابنتها المدللة "إسرائيل" على وجه الخصوص.
 
وإننا ونحن على مقربة من ذكرى الإسراء والمعراج وذكرى تحرير القدس من الاحتلال الصليبي، حيث اعتمد الفاتح صلاح الدين إستراتيجية أن الطريق إلى القدس تمر عبر القاهرة ودمشق وحلب، حيث كانت حلب آخر مدينة جرى تحريرها من أيدي الحكام العملاء قبل تحرير القدس، فها هي القدس وها هو المسجد الأقصى يقعان من جديد تحت الاحتلال الصهيوني، وها هي القاهرة تحت حكم أمراء عملاء، وها هي دمشق وحلب تحت حكم حاكم طائفي نصيري مدعوم من دول وتنظيمات طائفية، حيث هؤلاء يرفعون شعار تحرير القدس والأقصى، ولكنهم يخوضون معارك في حلب وحمص وكل الوطن السوري، حيث كل الدمار والخراب، ليكون ذلك في صالح من يحتلون القدس والمسجد الأقصى، الذين يشعرون بأمان غير مسبوق عبر وجود عميل في مصر وطائفي في سوريا، وعبر تدمير العراق وتسلط ميليشيات طائفية عليها، وعبر وجود اتفاقية بين إيران والغرب، أجزم أن فيها ملاحق سرية تضمن سلامة إسرائيل وعدم استهدافها من قبل إيران وحزب الله.
 
صحيح أن غيرنا يريد من معركة حلب أن تكون مقدمة لظهور ملك إسرائيل (المسيح الدجال)، وكما كانت أمريكا ذلك الحمار الذي ركبه اليهود عبر الأصوليين الإنجيليين في أمريكا برئاسة بوش لتدمير بغداد، فإن روسيا وأمريكا (وما مباركة بطريرك موسكو للحملة الروسية إلا إشارة واضحة على البعد الديني) هما الآن الحمار الجديد الذي تركبه إسرائيل لتحقيق أهدافها.
 
فإذا كانوا يريدون من معركة حلب مقدمة لظهور ملك إسرائيل، (معركة حلب التي ما تزال في بدايات الاستعداد لها، لأن كل هذا التحشيد وإرسال القوات يشير إلى أن المعركة الفاصلة الرهيبة قادمة)، فإنني أرى وبثقة ويقين بإذن الله، أن معركة حلب وما يجري في سوريا سيكون مقدمة لخلاص القدس وتحريرها. ولا أتحدث هنا عن أشهر قريبة، وإنما عن سنوات قريبة جدا. ولا أتحدث عن معركة جنودها بضعة آلاف وإنما التحشيد الذي نراه، وما ورد في النصوص أنها معركة مئات الآلاف، بل أكثر من ذلك.
 
فكما جاء تحرير القدس من الاحتلال الصليبي بعد فتح حلب ودمشق، فإن تحرير القدس والأقصى من الاحتلال الصهيوني مرتبط بما يجري اليوم في حلب ودمشق وكل سوريا.
 
وإذا كان الإيرانيون وميليشياتهم، كحزب الله وغيره ممن يلعبون لصالح إسرائيل وأمريكا، شاءوا أم أبوا، يظنون أن المقعد الشاغر لمن سيحرر القدس سيشغله المرشد الأعلى للثورة الإيرانية أو غيره فإنهم واهمون.
 
إن من ساندوا وتحالفوا مع الصليبيين يومها عند احتلال القدس والأقصى هم أنفسهم اليوم الذين يتصالحون مع أمريكا والغرب ومع من يمزقون جسد الأمة، ولن يكون لهم نصيب في تحرير القدس من الاحتلال الصهيوني، رغم شعاراتهم الرنانة: "الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل"، ورغم "جيش القدس" الذين زعموا أنه أقيم لتحريرها، وإذا به يقاتل هناك في حلب وليس في القدس.
 
أيها الغرب المنافق، الذي يقاتل ويحارب كُرمى لعيون إسرائيل، ومن أجل أميرها الموعود (الدجال) نقول لكم: إن قواعد اللعبة تغيرت تماما، وإن في الشام وفي كل بلاد المسلمين أبطال قد كفروا بمجلس الأمن وقراراته، وبالحكام الطواغيت ونذالتهم، أبطال الإسلام الذين يقولون إن قدم أبي جهل وأمية بن خلف لن تظل على عنق بلال إلى الأبد، وإن بلال قد قام يمزق أعلامهم ويبدد أحلامهم ويجرعهم كؤوس المر كما جرعوا صغارنا، ويسيل دموعهم كما أبكوا أمهاتنا، وإن غدا لناظره قريب.

أضف تعقيب

ارسل

تعليقات


أذهب للأعلى