16-5-1916 كان يوم توقيع الاتفاقية المشؤومة بين بريطانيا، يمثلها "مارك سايكس" وبين فرنسا، يمثلها "جورج بيكو"، فكان الاختصار وتسميتها باسم اتفاقية "سايكس- بيكو"، والتي تضمنت بنودها اقتسام أراضي الدولة العثمانية التي كانت في أشد حالات ضعفها.
16-5-2016؛ هذا اليوم وما قبله وما بعده، ومع مرور مئة عام على اتفاقية سايكس- بيكو فإننا نشهد اجتماعات ماراثونية ومشاورات وتنسيق مواقف وملامح لتقسيم جديد في المنطقة، لكنّ طرفي المشاورات الرئيسية ليسا سايكس وبيكو وإنما هما كيري ولافروف؛ وزيري خارجية أمريكا وروسيا.
كان الأهم في خبايا بنود سايكس- بيكو التمهيد لدعم المشروع الصهيوني. ولم يبق هذا في الخبايا. إنه وبعد عام واحد، وتحديدا يوم 2-11-2017 أصدر وزير خارجية بريطانيا اللورد بلفور تصريحه المشهور بـ"وعد بلفور" بإعطاء فلسطين لليهود لإقامة وطن قومي لهم على أرضها.
بعد أسبوعين فقط، وتحديدا يوم 2-6-1916 نجح الانجليز في تأليب دعاة القومية العربية برئاسة الشريف حسين لإعلان الثورة العربية على الدولة العثمانية بمهاجمة "الحامية العثمانية". وأين؟ في مكة المكرمة تحديدا!! في ضرب واضح للرابطة الإسلامية بين العرب والأتراك.
وخلال الحرب العالمية الأولى التي كانت في أوجها؛ في تلك السنوات نجح الحلفاء في تشجيع من مصطفى كمال أتاتورك على الانقلاب على الخليفة العثماني. وفي العام 1923 أعلنت الجمهورية التركية، وبعدها بعام (1924) ألغيت الخلافة العثمانية.
وبدأت موجات الهجرة الصهيونية إلى فلسطين تحت حماية الانجليز، ثم بداية الالتفات إلى المسجد الأقصى وحائط البراق، فكانت ثورة البراق 1929، حينما حاول اليهود إقامة الصلوات مقابله لأول مرة.
ثم كانت ثورة الشعب الفلسطيني ضد الاستعمار الانجليزي والعصابات الصهيونية، والتي اشتهرت بثورة 1936، إلى أن كانت النكبة الكبرى يوم 1948 وإعلان قيام دولة إسرائيل على حساب تشريد شعبنا الفلسطيني.
ها قد مرت مئة سنة/ قرن كامل على اتفاقية الغدر. وأدرك العرب أن أحلامهم القومية كانت أوهاما وسرابا. وبدل تحقيق إنجازات موهومة بانحياز القوميين العرب إلى جانب الانجليز ضد الأتراك، فقد كان العرب أنفسهم غنيمة؛ كما قال الشاعر:
قد رجونا من المغانم حظا ووردنا الوغى فكنا الغنائم
وفق نصوص وبنود سايكس- بيكو فقد قامت دويلات في العراق وشرق الأردن وفي سوريا وغيرها، ونُصِّب زعماء وأمراء وملوك، ثم ومن أجل مزيد من الشرذمة والتقسيم للأمة الواحدة فقد اعتبرت كل دولة من هذه تحت وصاية الانجليز والفرنسيين نفسها أمة، وليس شعبا فقط، ولها عاصمة ولها علم ولها نشيد وطني. ولعل تعداد سكانها لا يزيد على عشرات الآلاف من الناس.
ومن خلال هؤلاء، وتحت وصاية المندوب السامي البريطاني والفرنسي كانت البلاد مشرعة الأبواب لكل الأفكار والمناهج والمشاريع الفكرية والأخلاقية والسياسية، التي ضربت الأمة في صميم عقيدتها، فكانت الشيوعية، وكانت القومية العلمانية، وكانت مناهج ومدارس التغريب والفرنجة في كل ناحية من نواحي الحياة.
ولقد كان لافتا أن ما فعله دعاة القومية الطورانية التركية بقيادة مصطفى كمال أتاتورك لفرنجة الشعب التركي وإبعاده عن الإسلام هو نفسه الذي فعله دعاة القومية العربية في البلاد العربية، التي أصبحت تسمى دولا، لإبعاد الناس عن الإسلام، وكل هذه تحت غطاء التمكين للمشاريع القومية. وليس هذا وحسب، بل إنه تحت هيمنة الاستعمار، ومن الآثار المدمرة لاتفاقية الغدر سايكس- بيكو، التمكين للأقليات وتشجيع نزعة الانفصال عندهم، وهذا ما حدث خلال النفوذ الاستعماري الفرنسي في سوريا عندما قدّم قادة الطائفة النصيرية في الساحل الشمالي لسوريا وثيقة للمفوض السامي الفرنسي في بيروت مطالبين إياه بتعزيز ودعم الانفصال عن دمشق واعتبار العلويين النصيريين شعبا بذاته وليس ضمن الشعب السوري. وكان أحد الموقعين على هذه الرسالة الوثيقة سليمان الأسد جد بشار ووالد حافظ الأسد. ومع أنه لا مجال للتفصيل إلا أن دور النصيريين في دعم الاستعمار الفرنسي لاحتلال سوريا كان معروفا للجميع. وما عرف بعد ذلك من ثورات قادها نصيريون ضد الاستعمار الفرنسي فإنها تجمع بين نزعات وطنية عند بعضهم، أو اختلاف مصالح ونفوذ بين أقطاب هؤلاء وهؤلاء. وأولئك كانوا قلة بين الأكثرية التي ساندت الاستعمار الفرنسي.
ولعلها المفارقة اللافتة أننا نعيش بين اثنتين من الذكريات: أما الأولى فإنها سايكس بيكو 1916-5-16 والتي قسمت أملاك ونفوذ وولايات الدولة العثمانية وبين ذكرى 1453-5-29 وهو يوم انتصار وضم الأتراك العثمانيين لمدينة القسطنطينية؛ عاصمة الدولة البيزنطية وجعلها تحمل اسم إسلامبول وجعلها عاصمة الدولة العثمانية. وهل يخفي على عاقل وجود روح الانتقام في السياسات البريطانية الفرنسية؟
لقد مرت مئة سنة على اتفاقية سايكس- بيكو بكل آلامها وجراحها وآثارها السلبية على الأمة, لكن روح الإسلام ظلت حاضرة في نفوس الناس. وإن المشروع الإسلامي، حتى وإن كان تنحى جانبا لصالح المشاريع القومية، إلا أن له دعاته والعاملين له الذين التقى على معاداتهم الفرنسيون والبريطانيون وعملاؤهم من الزعماء الذين نُصِّبوا من العرب والمسلمين.
وجاءت ثورات الربيع العربي ضد الزعماء والطواغيت من سلالات عكاكيز فرنسا وبريطانيا ومن الذين أفرزتهم سايكس- بيكو، وظهرت روح الإسلام في تحركات الشعوب. وكان التحرك العربي بكل مركباته لإفشال هذه الثورات، لكن الذي اختلف هذه المرة أن النفوذ القومي لم يكن لفرنسا وبريطانيا وإنما لروسيا وأمريكيا، وإذا لم يتردد الآن اسم سايكس- بيكو فإن اسم جون كيري ولافروف هما اللذان يخططان الآن لسايكس- بيكو جديدة.
نعم، لقد كان واضحا قبل 100 عام أن سايكس- بيكو كانت تسعى لتحقيق مصالح الحركة الصهيونية بشكل واضح. وظهر هذا سريعا في وعد بلفور 1917 والتمكين لإقامة إسرائيل على حساب نكبة شعبنا الفلسطيني يوم 15-5-1948. وإن من يراقب سياسات روسيا وأمريكيا عموما، ودعم السيسي وبشار الأسد خصوصا سيجد أنها تصب في صالح الحفاظ على إسرائيل وإبقاء حدودها آمنة من الشمال والجنوب. وإن تواطؤ أمريكا وروسيا في عدم السماح للثورة السورية بالانتصار، بل وبتقديم الدعم المباشر من روسيا، ومنع أمريكا لتسليح الثورة السورية فإنه لصالح إبقاء بشار الأسد الذي لم يتردد الإسرائيليون بالقول إن بقاءه هو لصالحهم. وإن ما شاهدناه من تفاهمات "بيبي- بوتين"، ومن تنسيق بين سلاحي الجو الإسرائيلي والروسي في الساحة السورية إنما يأتي لتحقيق مصالح إسرائيل بالدرجة الأولى.
ليس العيب ولا الملامة على سايكس ولا على بيكو يومها، ولا على كيري ولا على لافروف اليوم، ولا العيب والملامة على قادة المشروع الصهيوني الذين يسعون إلى تحقيق مصالحهم يومها واليوم، لكن العار والشنار والعيب والتهمة توجه إلى دعاة القومية العربية يومها الذين قبلوا بطعن دولة الخلافة العثمانية في الظهر، وانحازوا للبريطانيين والفرنسيين، وقد رأوا بأم أعينهم كيف سخّر هؤلاء إمكاناتهم وإنجازاتهم ضد الدولة العثمانية لصالح المشروع الصهيوني بإعلان وعد بلفور أولا، وبإتمام إقامة إسرائيل ونكبة شعبنا ثانيا. وإنهم دعاة القومية العربية اليوم الذين يعودون إلى نفس المواقف، ما يشير إلى أن المسألة ليست مسألة اجتهاد يخطئ ويصيب، بقدر ما أنها نوايا سيئة وقناعات مشبوهة. إنهم الذين يتظاهرون اليوم عبر صحفهم وكتاباتهم وتصريحاتهم بانتقاد سايكس- بيكو وآثارها على الأمة العربية، بينما هم اليوم يؤيدون ويباركون ما تفعله روسيا في سوريا. ولماذا أقول روسيا ولا أقول أميركا؟ لأن موقف أميركا ودورها واضح جدا في عدائه لأمتنا وشعوبنا ومناصرتها للطواغيت والمجرمين، بينما يحاول البعض تصوير الدور الروسي بأنه دور إيجابي وأنه لصالح الشعب السوري.
نعم، قبل مائة عام بالتمام كانت سايكس- بيكو، حيث كانت أبرز ملامح تلك المرحلة بداية مغيب شمس المشروع الإسلامي عبر تفكيك الدولة العثمانية التي كانت تمثله، على الرغم من كثير من المآخذ والسلبيات التي وقعت من بعض الولاة والقادة الأتراك، وفي المقابل فإنها شمس المشروع الصهيوني كانت تبزغ وتطلع، وكان أول إشعاعاتها إعلان بلفور وما لحقه بعد ذلك.
واليوم، وبعد مئة سنة، ورغم مرور 68 سنة على إقامة إسرائيل تحقيقا لوعد بلفور، ومع أن المنطقة العربية تشهد ملامح سايكس- بيكو جديد فإنني على يقين وثقة بأن هذا المخطط سيفشل، رغم حالة الشرذمة والدمار التي يوقعها عملاء أميركا وروسيا من أمثال بشار والسيسي وحكام الخليج بشعوبهم وبالأمة كلها. وليس أن مشروع كيري لافروف سيفشل فحسب، بل إن المشروع الصهيوني الذي كان مولده يومها فغنه المشروع الذي هو أقرب إلى نهاية اليوم، ولعله الاحتضار والنزع الأخير. هذا ليس كلامي ولا هي توقعاتي، وإنما هي الحقيقة التي راح يتحدث بها في الآونة الأخيرة الكثير من أساطين وقادة المشروع الصهيوني ممن باتوا يدركون أن إسرائيل فعلا جزيرة في محيط إسلامي، وأن قوتها وغطرستها لن تحميها من المتغيرات الخارجية والداخلية التي تطرأ عليها وحولها.
ولقد كان آخر المحبطين والمتشائمين رئيس الشاباك السابق "يوفال ديسكين"، الذي كتب يوم الجمعة الأخيرة 20-5-2016 وفي ملحق صحيفة "يديعوت أحرونوت" وتحت عنوان (نهاية البداية أم بداية النهاية)، حيث تحدث بتشاؤم وسوداوية ويأس من مستقبل المشروع الصهيوني، مشيرا إلى كثير من مظاهر المرض راحت تنهش في جسم المجتمع الإسرائيلي سياسيا واقتصاديا وفكريا وأخلاقيا ومعنويا. ولعل من أهم ما قاله، وفيه تأكيد على ما ذكر كثيرا في الآونة الأخيرة: (إن أعداد الإسرائيليين الذين يبحثون ويسعون للحصول على جوازات سفر أجنبية؛ جوازات الهروب (דרכוני מילוט) في ازدياد ملحوظ ومتسارع). أمام هذا اليأس والتشاؤم فإنه الأمل والثقة واليقين بأن المستقبل لنا ولشعبنا ولأمتنا. إنها إذًا أسئلة "يوفال ديسكين". وكلا السؤالين الإجابة عنه صحيحة، فإذا كان السؤال: هل هذه نهاية البداية؟ كان الجواب: نعم، إنها نهاية بداية المشروع الذي ابتدأ مع سايكس- بيكو وإعلان بلفور. وإذا كان السؤال: هل هي بداية النهاية؟ كان الجواب: نعم، هذا ما يحصل الآن بعد مرور مائة سنة، حيث شمس المشروع الصهيوني بدأت ملامح أفوله ومغيبه ظاهرة وبارزة، بينما ملامح شمس المشروع الإسلامي راحت تظهر وبقوة، ولا تخفى إلا على أعمى البصر والبصيرة.
لم تنقض ساعات يوم الجمعة 20-5 وإذا بالمحلل العسكري للقناة الثانية الإسرائيلية الصحافي المعروف "روني داينيل" يفجر قنبلته هو الآخر لما قال: "די אי אפשר, אני ציפור זקנה, אני אשאר פה. ילדיי...אני לא בטוח שזה מה שאני רוצה." . كفى, هذا لا يحتمل, أنا عصفورة عجوز وسأبقى هنا. أما بالنسبة لأولادي, لست متأكدا أن هذا ما أريده ...
هكذا كانت البداية قبل مائة عام بـ "سايكس- بيكو". وهكذا هو حال المشروع الصهيوني الذي أفرزت تلك الاتفاقية تفاصيل وظروف نجاحه. لكنه القرن الواحد؛ مئة سنة، توصل عقلاء القوم إلى أن القوي لن يبقى قويا إلى الأبد، وأن الضعيف لن يظل ضعيفا إلى الأبد. وإنها فعلا بداية النهاية ونهاية البداية.
أضف تعقيب