"هروب بريطانيا"....

الهجرة والاسلمة، ومرحلة ما بعد العولمة

عبد الحكيم مفيد
آخر تحديث 30/06/2016 09:18

خلال ساعات "طارت" بريطانيا من اوروبا مرتين،مرة من الاتحاد الاوروبي اثر استفتاء اجري في المملكة، واخرى من تصفيات بطولة اوروبا لكرة القدم اثر "مفاجأة" مدوية من العيار الثقيل امام فريق اوروبي متواضع هو ايسلندا، ولم يغيب عنصر المفاجأة ايضا من الاستفتاء الذين راهن عليه رئيس الحكومة البريطاني دافيد كاميرون، فكانت النتيجة مأساوية بالنسبة له.

ليس من المؤكد اية من "المفاجآت" اشغلت الانكليز اكثر فيما بعد، لكن من المؤكد ان مفاجأة الاستفتاء سيكون لها اسقاطات اكثر على المملكة، اوروبا والعالم بالعموم، النتيجة بغض النظر عن التأويلات والتفسيرات المختلفة التي لحقتها وما زالت الى هذه اللحظة، تؤكد ان اوروبا لم تعد تلك التي كانت، وان التفكيك لا محالة هو جزء من "الوعي القومي" الاوروبي الذي كان يختبأ خلف الاتحاد الاوروبي، وانه يدشن لمرحلة "ما بعد العولمة"، التي فرضتها مرحلة الهيمنة الامريكية ما بعد الحرب الباردة، منذ بداية تسعينات القرن الماضي.

ليس من جديد في النزعة الانفصالية لدى الانكليز، الامبراطورية التي غابت شمسها نهائيا وبشكل رسمي بعد الحرب العالمية الثانية ،مرحلة بداية حقبة الحرب الباردة وتشكل القطبين(الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في حينه)،على مدار وجودها داخل الاتحاد كانت بريطانيا ترتبط اكثر مع الولايات المتحدة، لاسباب عرقية ودينية تاريخية، وظلت على طرف اوروبا ،شبه منفصلة، وعليه لم يكن في انفصالها اية مفاجأة.

انشغلت بريطانيا مع اوروبا والولايات المتحدة في السنوات الاخيرة في عمليات تفكيك متواصلة، طالت العالمين العربي والاسلامي، ولم تتوقف عمليات التفكيك حتى هذه اللحظة، ولم تكن هذه العمليات تنفذ من خلال فعل عفوي ،لقد كانت منظمة وواضحة في اهدافها وغيها، كان مشروع الشراكة الاوروبية-الشرق اوسطية لا يقل عدوانا عن المشروع الامريكي، لصناعة شرق اوسط جديد، منسجما مع مشاريع الهيمنة الغربية، وبخلاف امريكا فقد ظل التعامل مع اوروبا واتحادها اكثر نعومة عربيا واسلاميا، واعتبرت اوروبا "مختلفة" من حيث التوجهات والمواقف وهي الثغرة التي كانت تتيح لانصار اوروبا تسويق موقف ايجابي منها.

اخترقت اوروبا ودولها المختلفة العالم العربي(مثلا) بذات الادوات الناعمة التي استعملتها امريكا، الجمعيات والمؤسسات والمال ،وتدخلت بشكل مباشر وغير مباشر بالقضايا الداخلية للعرب، غير ان عدم ظهورها الجارف عسكريا كما الولايات المتحدة منح لها "حالة انسانية" ،وجعل التعامل معها اكثر لطفا او لنقل ان الموقف منها اكثر "ايجابية".

تدفع اوروبا الان كمقدمة ثمن الاجرام الذي مارسته بالشراكة التامة مع الولايات المتحدة، في النهاية ليس تصريحات "اليسار" الاوروبي حتى الذي وصل الى الحكم هي التي سنحكم بها على اوروبا بل مواقفها وممارستها، وهنا وتحديدا بشان العالم العربي والاسلامي لم تختلف مع الولايات المتحدة الامريكية، كانت شريكة تامة، في افغانستان والعراق بشكل خاص وما يحدث الان في العالمين العربي والاسلامي.

اوروبا ليست صوت واحد، وعلاقتها وموقفها من الولايات المتحدة ليس واحد كذلك، وفرنسا مثلا لا تزال ترى بالثقافة الامريكية بكل رموزها خطرا على ثقافتها الوطنية، وحتى بريطانيا الاكثر قربا لامريكا لا تتفق معها في كل شئ، لكن هذا الاختلاف القائم على اساس الحرب في الحفاظ على الهوية القومية المحلية والهيمنة والقوة،لم يكن ولو لمرة واحدة سببا في الاختلاف تجاه العالمين العربي والاسلامي ،مع التأكيد على التفاوت لدى الأوروبيين في مواقفهم، من جهتنا لا نرى ان فرنسا تشبه اسبانيا وايطاليا مثلا في مواقفها العدائية السافرة،ل كن من جهة اخرى ليست هناك اية خلافات حول الهيمنة ما زال كل طرف يحصل على "حصته" و"مكانته".

الهجرة والاسلمة

خلف هروب بريطانيا من الاتحاد الاوروبي هناك امور ظاهرة واخرى مخفية، حين يقول رئيس الحكومة البريطاني دافيد كاميرون في سياق الرد على قضية الهجرة الى المملكة من دول الاتحاد(اوروبيون وغير اوروبيين، عرب ومسلمين مثلا)،وهي احد الاسباب التي صوت مع الانفصال كل من يعارض الهجرة، حين يقول ان بريطانيا تحتاج الى شباب للعمل لان نسبة من هم فوق جيل الخمسين تصل الى 53% وهو رقم مخيف بالنسبة لمستقبل بريطانيا، فانه يكشف عن اكثر ما يخيف الاوروبيين مؤخرا، قضية الزيادة السكانية الطبيعية في اوروبا، والتي تسجل في بعض الدول مثل المانيا وروسيا وايطاليا نسبة سلبية، أي ان عدد الوفيات سنويا يفوق عدد المواليد، اوروبا العجوز تصحى على نفسها امام خطر يفوق أي مسالة اخرى، المورد الاساسي للدولة ،البشر.

غير ان مسالة "الديموغرافيا" التي تشغل اوروبا مؤخرا،تقف امام بعض الحقائق "المزعجة" الاخرى، وهي انه مقابل النسبة السلبية في التكاثر السكاني لدى الاوروبيين فهناك من يسجل نسبة تكاثر "لا باس بها"(يعني بتحرز)،تتمثل في العرب والمسلمين الذين يسكنون الدول الاوروبية، القسم الذي اصبح يحمل الجنسية المحلية بحكم الهجرة منذ سنوات، بالذات من دول شمال افريقيا وتركيا والعالم العربي، والقسم الاخر الذي تدفق على اوروبا مؤخرا عبر عمليات الطرد والنزوح الجماعي من الدول العربية بالذات من سوريا والعراق، هكذا تجد اوروبا نفسها تفكك دولا لتجد مواطنيها يلجؤون اليها.

من المهم الالتفات مثلا للتفجيرات "المميزة" التي كانت في فرنسا وبلجيكا، في هاتين الدولتين وبالذات في بلجيكا هناك توجد عربي اسلامي لافت للنظر، ليس على هامش الحياة هناك، بل في مركزها وفي المدن المركزية مثل بروكسل.

الارقام التي تذكر حول نسبة المسلمين في الدول الاوروبية هي ارقام عامة،8% من سكان فرنسا هم من المسلمين، هذا رقم لا يفصل نسبة الاجيال المختلفة ،نسبة الشباب العرب والمسلمين او ما هم دون سن 25 في فرنسا هي اعلى من النسبة العامة(8%) بعض التقديرات تتحدث عن 12%.
المستقبل في اوروبا ديموغرافيا للعرب والمسلمين، هذه مسألة صارت من المسلمات هناك، وهي واحد من ازمات اوروبا القادمة، هؤلاء ليسوا على هامش الحياة في اوروبا، بالعكس ،نسبة العرب والمسلمين في الاكاديميا الاوروبية عالية للغاية، وكذلك في الصناعات المركزية، عدا عن انهم يمارسون حياة سياسية (برلمان بلديات احزاب)،اكثر مما كان عليه في السابق.

هربت بريطانيا او "نصفها"، من الاتحاد الاوروبي ،هو تعبير عن نزعة قومية تنتشر في اوروبا في السنوات الاخيرة، وهي تعبير ورد على العولمة، التي كان هدفها الاستراتيجي خلق "انسان عالمي" واحد، يعتاش على الاستهلاك ،بدون أي قيم بدون دين ولا وطن،بريطانيا صوتت لصالح خوفها وتخوفاتها، فهي لا تريد مهاجرين، لانها صارت تخاف على نفسها،وتشعر انها فقدت شيئا من ذاتها المحافظة، المنغلقة، فهي ليست ضد الهجرة فحسب التي ترى انها تشكل خطرا عليها، بل ضد من رغب من تجريدها من ذاتها ورموزها وقيمها هي، العولمة، بهذا المفهوم هي تعود لتتقوقع، لتعيد ذاتها المفقودة.

ليست بريطانيا تعيش هذا الشعور فحسب، وليست العولمة تشكل خطرا على ذات وهوية بريطانيا والهجرة والاسلمة بشكل خاص، بل المانيا الذي يرى الاوروبيون انها تدير الاتحاد الاوروبي بحسب ما تقتضي مصالحها، وتفرض هيمنتها وقوتها الاقتصادية بشكل يشعر الاخرين بالخوف.

من يفكك مصيره ان يتفكك

فرنسا ودول اسكندنافية وايطاليا كذلك تفكر بالانفصال، وفي الممكلة المتحدة (بريطانيا) تفكر باقي دول الاتحاد بالانفصال واعلان الاستقلال التام(سكوتلندا،ويلز ايرلندا..)،هذه كلها ردود فعل طبيعية للغاية، لشعوب ودول تشعر بالخوف، ومن يزرع الخوف في امكنة اخرى مصيره ان يخاف، ومن يفكك مصيره ان يتفكك، هذه مسألة لن تهرب منها اوروبا ولن تقدر على الهروب منها.

اوروبا لا تبدو "شائخة" فحسب، اوروبا تبدو خائفة للغاية، خائفة من ذاتها ،خسارتها الديموغرافية التي تسجلها السنة تلو الاخرى، وتوازنات "رعب الديموغرافيا" العربي والاسلامي في اوروبا لم يعد منشغل في "مهاجرين مساكين" يعيشون على اطراف المدن وفي مدن الصفيح، هذه المرحلة ولت(كانت منتشرة في سنوات الخمسين)،المهاجرون اصبحوا سكان اصليون، جزء من صناعة الحياة والحضارة جزء اصيل، ولا يشعرون انهم يعيشون في مجتمعات معادية، بالعكس هم يبحثون على اكبر قدر من الانسجام والاختلاط والتفاعل والحياة مع هذه المجتمعات، اوروبا من جهتها لا تكن لهم العداء، التفجيرات التي حصلت في فرنسا وبلجيكا مثلا تؤكد ان الجهة التي وقفت خلف هذه التفجيرات كانت تقصد ايذاء المسلمين وتواجدهم في اوروبا وعلاقتهم مع الأوروبيين، والامر لا يحتاج لداعش، طبعا.

قوة بريطانيا في الاتحاد الاوروبي مرتبطة للغاية بقوة وهمينة الولايات المتحدة، ومؤخرا يمكن ملاحظة تراجع قوة وسطوة وهيمنة امريكا، من العراق مرورا بافغانستان وفي اماكن اخرى، بريطانيا تشعر اقل امنا في الاتحاد الاوروبي او "اقل حماية"، في ظل تراجع قوة الولايات المتحدة وتأثيرها.

لن تتفكك اوروبا غدا طبعا، لكن عملية التفكيك بدات، ولا رجعة فيها، وستفقد الولايات المتحدة قوتها وهيمنتها وسطوتها قبل اوروبا، بل وستنهار قبلها، لسبب بسيط للغاية، عناصر البقاء والقوة لدى الاوروبيين تفوق تلك التي تملكها الولايات المتحدة، وتحديدا في مسألة الحضارة والثقافة، وهي عناصر تفتقدها الولايات المتحدة كليا، وتعتبر من اهم عناصر بقاء الحضارات، او مدة بقائها.

طبعا،الولايات المتحدة لن تنهار غدا، لكن عملية الانهيار بدأت في العراق، وعملية تفكيك الاتحاد الاوروبي بدأت هناك كذلك، ومشروع العولمة الذي يستهدف الهمينة بالقوة الضاربة والناعمة، لم يعد قادر على ذلك، الشعوب والكيانات تعود لتبحث عن نفسها بعد ان ضاعت في المجمعات التجارية وفي اعلام "الملهاة"، هي الان تحاول ان تستيقظ من اكبر خديعتين تم بيعها للشعوب(بالتفاوت) ،الاستهلاك الذي افقد الناس جيوبهم، والاعلام الذي افقدهم عقولهم، وبين هذين اعتاش الناس على العاب الارهاب التي صنعها الدجال كان اخرها داعش.

أضف تعقيب

ارسل

تعليقات


أذهب للأعلى