بعد أن غفا أنصار الإنقلابات في مصر والعالم العربي يوم الجمعة الماضي مسرورين لسماع خبر الإنقلاب في تركيا وروسوا عناوين صحفهم الرئيسة ونشراتهم الإخبارية بخبر "الجيش يطيح بإردوغان" بعد ّذ فعلوا ذلك واحتضنوا وسائدهم بكثير من الراحة والغبطة والسرور تداعبهم مخيالاتهم وأحلامهم السوداء بشخص الرئيس الطيب مقادا في السلاسل أو قتيلا صحوا فجرا على خبر آخر يطيح بهم وبما تبقى من أشلاء أعلامية في ذيولهم ليصعقوا بأن مدة الإنقلاب الذي هللوا له وطبلوا وزمروا لم تتعد مدة شخيرهم الأول وإذ بجميع أزلام الإنقلاب العسكري الفاشل في تركيا يرسفون في السلاسل ويقادون الى القضاة والسجون .
لم يكن حجم الإنقلاب العسكري الفاشل في تركيا صغيرا لكن الشعب التركي كان كبيرا جدا أكبر منه ومن المؤامرة ، حجم الإنقلاب كان كبيرا جدا لدرجة أن الخطة كانت محكمة ومفصلة ومعدة وشاركت فيها أطراف دولية كما قال الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في مقابلته مع قناة الجزيرة ، لكنه لم يسم هذه الأطراف ، كانت الخطة تقتضي أن يتم الإنقلاب في الثالثة فجرا من يوم الجمعة والناس نيام ليصحوا على حكم عسكري ونظام طوارئ ورئيس إما معتقل وإما قتيل ، لكنه قدر الله قبل كل شيء ثم اكتشاف مبكر للمخطط من قبل جهاز المخابرات جعل الإنقلابيين يبكرون تنفيذ مخططهم الفاشل ، وجعل الرئيس التركي الطيب يخاطب شعبه لمدة 12 ثانية كانت كفيلة أن تغير مجرى الأحداث كلها وأن تغير مجرى التاريخ .
في الأسبوع الأخير شاهدنا كما هائلا من البرامج الإخبارية والتحليلية وسمعنا كما كبيرا من الأخبار التي تناولت مسألة الإنقلاب التركي الفاشل ومسألة التغلب المبكر عليه ووأده وهو في مهده ، لكن أهم ما سمعناه وشاهدناه في هذه المحاولة الإنقلابية الفاشلة هو الشعب التركي نفسه ، وليعذرني إخوتي وأحبتي القوميين العرب الذين أحب فيهم حرصهم وحبهم لقومنا ويزعجني فيهم تطرفهم في هذا الحب الى درجة الغاء المكون الرئيس للشخصية العربية من المحيط الى الخليج ، إلا إذا كانت المصالح الفئوية والشخصية في نظرهم أقوى من مصلحة وحب الوطن .
في تركيا كان الوطن وكانت الدولة فوق كل اعتبار ، تعامل الشعب التركي مع الإنقلاب على أنه جاء ليسلب منهم وطنهم وحريتهم ودولتهم التي تعبوا في بنائها ، ولذلك فقد هب الشعب التركي بكل مكوناته السياسية الى الميادين بعد إذ سمع مقابلة مدتها 12 ثانية تم بثها عن طريق "الفيس تايم" مع رئيسه الطيب إردوغان دعاهم فيها الى النزول الى الشوارع لحماية الدولة والوطن .
يقول الإعلامي محمد خيري الذي يقيم في تركيا ويعمل لصالح قناة تي آر تي التركية بالعربية أنه كان وزملاؤه ساعة الإنقلاب يسهرون في مقهى بجانب بلدية إسطنبول الكبرى في حي الفاتح عندما بدأت تحركات غريبة للجيش في الشوارع ، وعندما أذيع بيان الإنقلابيين عبر التلفزيون الرسمي ، ويصف المشهد بأن الشوارع خلت ساعتها من كل شيء وأن الناس التزمت بيوتها ، وما كنت تسمع همسا حتى إذا خاطبهم رئيسهم عبر المكالمة آنفة الذكر وإذ بالأمواج البشرية أطفالا ورجالا ونساء وشيوخا وشبابا يملأون الشوارع ويهتفون "الله اكبر ، بسم الله" ويعترضون بأجسادهم وبسيارات الإسعاف والإطفائية والحافلات دبابات الإنقلاب وجنوده ويفشلونه ، ويصف خيري شابا أعياه تعب الإعتصام بعد فشل الإنقلاب في ميدان تقسيم فالتحف علما تركيا أحمر ونام في أصل شجرة في الميدان ، يصفه الزميل محمد خيري بقوله :" أعياهُ الفرح، فالتحف الوطن، ونام ..." وهو لا شك تعبير بليغ للوحدة التركية التي تمثلت بكل أطياف الشعب التركي وأحزابه السياسية تدافع عن وطن وحرية ، تمثلت بشعب له علم ودولة ومنجز ديموقراطي وهو شعب غير مستعد أن يفرط به ولذلك قال رئيس حزب الشعب وهو حزب معارض إذا كان حزب العدالة والتنمية معنيا بإقرار قانون الإعدام فسيجدنا معه وهكذا كان موقف الأحزاب التركية من الإنقلاب والإنقلابيين .
في الواقع وأنا أشاهد معظم الإعلام العربي خلا قناة الجزيرة وبعض القنوات العربية الشريفة كالقدس وشبيهاتها في الوطن العربي الواسع أتذكر الواقع العربي المرير الذي التحف فيه الطيف السياسي العربي على مختلف مسمياته القومية والشيوعية وغير ذلك أنانيته المفرطة وكراهيته للآخر والقى الوطن والدولة على قارعة الطريق بل قل بين أحضان البغايا والتف مع العسكر في مواجهة الوطن والدولة والحرية والديموقراطية وقدم في سبيل ذلك الدولة والوطن على مذبح الأنانية والفئوية .
تقف مشدوها أمام شعب يستحق الحياة لأنه مستعد أن ينبطح أمام دبابة العسكر المنقلب حتى يمنعها من التقدم في اتجاه سلبه وطنه وحريته وكرامته ، وتقف ملتاعا وأنت ترى شعبا يسلب منه وطنه وحريته ووطنه وهو يغني للمجرم السارق القاتل "تسلم الأيادي" فيما هو يبحث في مخلفات قاتله عن كسرة الخبز .
أضف تعقيب