باستثناء ادعاء التمثيلة التي يروج لها البعض، تقرُّ معظم وسائل الإعلام خارج تركيا بأن هناك انقلاباً عسكرياً نُفِّذ على رجب طيب أردوغان، وتَنظُمُ المعلقات عن السلطوية التي سينتهجها هذا الرئيس، وحقوق الإنسان التي سيخرقها، وجيشه الذي سيؤسسه، والانتقام الذي سوف ينتقمه، وما سوف يفعله، وسوف...
ولكن الأمر في تركيا يسير باتجاه آخر تماماً.
لقد كانت الأحزاب السياسية التركية قبل الانقلاب تصفُّ تهماً لرجب طيب أردوغان تكفي إن ثبتت لسجنه قروناً (لأن حكم الإعدام ما زال ملغى هنا). ولكن هذه الأحزاب لم تر أن الانقلاب كان ضد رجب طيب أردوغان، بل اعتبرته ضد الديمقراطية، ودعت أنصارها للاحتشاد في بعض الساحات تعبيراً عن رفض الانقلاب، وتبني الديمقراطية، حتى إنها شاعت على نطاق واسع عبارة "أسوأ ديمقراطية أفضل من أفضل انقلاب"...
ما السر بهذا التوافق، والانسجام في الصحافة العالمية في نقطة اعتبار أن الانقلاب ضد شخص أردوغان؟ من الصعب القول إن الأوامر تأتيها كلها من مصدر واحد، فهذه الصحف منها مؤيدة للانقلاب، وتبدي أسفها وحزنها على فشله، ومنها رافضة له، وتدافع عن الإجراءات التي تقوم بها الحكومة التركية بشكل مطلق، ومنذ لحظة صدورها...
نموذج الإسلام الديمقراطي:
لا ينكر أحد أن الولايات المتحدة الأمريكية دعمت حزب العدالة والتنمية عام 2002 بالضغط على الجيش التركي للقبول بالصندوق التي أفرز نتيجة جعلت هذا الحزب يحكم وحده في تجربة نادرة هي الثالثة خلال نصف قرن بالنسبة إلى الحالة السياسية التركية. الأولى كانت حكومة الحزب الديمقراطي بزعامة عدنان مندريس في الخمسينيات، وانتهت بانقلاب عسكري أعدم فيه رئيس الجمهورية، والثانية كانت في حزب الوطن الأم برئاسة تورغوت أوزال، وانتهت بترهل الحزب، وتفككه.
وكان المبرر الأمريكي بعد أحداث الحادي عشر من أيلول بأن الإسلام الديمقراطي هو الخيار الأنجع للحيلولة دون انتشار الإرهاب، فأريد لتركيا أن تكون نموذجاً لهذه الديمقراطية في المنطقة، والتقط يمين الوسط التركي هذه الرسالة، واستغلها، وشكل حزب العدالة والتنمية الذي تقدمت فيه بعض الشخصيات ذات الخلفية الإسلامية إلى الواجهة.
بعد فترة قصيرة حققت تركيا نجاحاً اقتصادياً وتنموياً تجاوز كل التوقعات، فالبلد الواقع رهينة المؤسسات المالية الدولية، والعاجز عن تخديم ديونه الخارجية والداخلية، وتصل فيه نسبة التضخم إلى مئة بالمئة وتزيد في كثير من السنوات، ويقرر فيه العسكر كل شيء، لا يمكن أن يتجاوز حدوداً معينة، وإن تجاوزها فهناك عسكر بالمرصاد يعيدون الأمور إلى نصابها. ولكنه في الحقيقة تجاوزها، ودخل بين أكبر عشرين اقتصاد عالمي، وبدأ يستعد للعب أدوار إقليمية يراعي فيها مصالحه قبل مصالح الآخرين.
التراجع عن الاستراتيجية:
لم يكن الانقلاب العسكري الأخير هو المؤشر الوحيد على تراجع الإدارة الأمريكية عن استراتيجيتها التي وضعتها في نهاية عام 2001، فدعم الثورات المضادة في دول الربيع العربي، والعمل على إعادة إنتاج الأنظمة الديكتاتورية السابقة وتعويم الحالية مثل نظام بشار الأسد، تعتبر مؤشرات مهمة على التراجع عن تلك الاستراتيجية.
في تركيا لم تكن هذه المحاولة الانقلابية هي الأولى بعد البدء بسحب البساط من تحت البسطار (الحذاء) العسكري، فقد سبقتها محاولات عديدة، منها عسكرية وواحدة أطلقت عليها الحكومة اسم الانقلاب القضائي، والذي كان الهدف منه تشويه سمعة بعض قادة الحزب، وسجنهم، تمهيداً لتفكيك الحزب، وعودة تركيا إلى حكومات ائتلاف الأحزاب المتناقضة غير المستقرة الهشة التي يكون للجيش فيها الكلمة الفصل.
المفاجأة الصاعقة:
لم يكن نجاح النموذج في تركيا وحده هو الذي أصاب المراقبين بالصدمة. فقد كان المؤمل أن تعطي الحملة الدعائية المنتظمة التي بدأت سنة 2011 ضد النموذج التركي أُكلها، وأن ثمارها قد دنى قطافها، لهذا السبب لم يكن ثمة شك ولو واحد بالمئة بأن الانقلاب العسكري يمكن أن يفشل، وهذا ما جعل التهليل للانقلاب، وإعلان نجاحه يبدأ قبل البدء به.
ما أصاب المخططين بمقتل هو وقوف الإعلام التركي الذي يكيل التهم ليل نهار لحزب العدالة والتنمية وزعميه رجب طيب أردوغان وبشكل حازم ضد الانقلاب. وهذا الموقف تحديداً أوقع مدير إحدى الفضائيات العربية الكبرى بموقف هزلي مرتين. الأولى عندما أيّد الانقلاب، وقد فشل، والثانية عندما برر أنه ينقل عن وسائل الإعلام التركية! فهو لا يستطيع تصور أن الإعلام التركي كله يعارض الانقلاب العسكري.
لم يقتصر الموقف على الإعلام، فالأحزاب السياسية كلها، بما فيها حزب الشعوب الديمقراطي الذي يعتبر جناحاً سياسياً لحزب العمال الكردستاني الذي يخوض حرباً مسلحة ضد الحكومة التركية بحسب مقولاته، وتعتبره الحكومة يخوض حرباً ضد الدولة التركية، وقف ضد الانقلاب، ودعا جماهيره للنزول إلى الشارع رفضاً للانقلاب ودعماً للديمقراطية.
الانقلاب على النموذج:
صحيح أن انقلاباً عسكرياً فاشلاً حدث في تركيا، وتخوض الأحزاب السياسية التركية كلها وعلى رأسها حزب العدالة والتنمية الحاكم معركة التغلب على تداعياته، ولكن انقلاباً آخر لا يقلُّ خطورة قد حدث أيضاً، ولا تعرف بعد نتائجه. إنه انقلاب على النموذج الديمقراطي في دولة إسلامية.
هذا هو السبب الرئيس الذي أبرز الفرق بين الإعلام الخارجي الذي ركزَّ أن الانقلاب على رئيس الجمهورية التركية رجب طيب أردوغان، والإعلام التركي الذي اعتبر الانقلاب على الديمقراطية وبمعنى آخر على النموذج.
يمكن وصف الانقلاب التركي بأنه ثورة مضادة جديدة على التحول الديمقراطي الذي شهدته تركيا خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وتسرّع أكثر في الأربعة عشر عاماً الأخيرة منها، ولعل الهدف منه هو القضاء على الأمل بالتحول الديمقراطي في المنطقة، لأن نجاح هذا النموذج يعني بالنتيجة بث الأمل من جديد بديمقراطية تعيد إلى شعوب المنطقة كرامتها.
أضف تعقيب